وقفة مع الذات

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
– ” اللهم أنت الأبدي القديم وهذه سنة جديدة، أسألك فيها العصمة من الشيطان وأوليائه، والعون على هذه النفس الأمارة بالسوء، والاشتغال بما يقربني إليك يا كريم.” دعاء رقيق جميل يقوله المسلم في بداية كل سنة هجرية، يطلب فيه مولاه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يصرف عنه كيد الشيطان، وشر النفس الأمارة بالسوء، وأن يثبته على الطريق المستقيم، طريق الذين أنعم الله عليهم، وأن يشغله بذكره وطاعته وعبادته، والثبات على طريق الدعوة لأنها من أشرف الأعمال وأعظم القربات. فيا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه.


– يقول ابن القيم – رحمة الله عليه: ” السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل..” فيا فوز من تفطن للقيمة النفيسة للوقت، فعمره بما يفيد وينفع ، ويا شقاوة من بعثره هنا وهناك في غير ما فائدة دينية أو دنيوية. قال ابن مسعود – رضي الله عنه:” والله ما ندمت على شيء، ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.” نعم هكذا فقه الصحابة والسلف الصالح – رضي الله عنهم- الزمن، وبهذا العمق كانوا يمتلكون ثقافة الإنجاز. حساسية مفرطة حول الحرص على المحافظة على الأنفاس والدقائق حتى لا تذهب سدى. قال الحسن البصري: “يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، وإذا ذهب بعضك أوشك أن يذهب كلك.”
– تمر بنا الأعوام وتنتزع منا الأيام والليالي ونحن مبهوتون وعن الأمر العظيم غافلون. “اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم…”(آ 1،2،3 الأنبياء). يا سبحان الله الخطر يداهمنا، والتنبيه والتحذير وصفارة الإنذار تعمل عملها، ورغم ذلك، غفلة وإعراض.. لعب ولهو.. قال الشاعر الحكيم: لقد أسمعت لو ناديت حيا ** لكن لا حياة لمن تنادي.
– تطوى صفحات السنين طيا، ويتقدم بنا العمر، وتنقضي سنة هجرية وتحل أخرى، وكذلك السنة الميلادية، فهل توقفنا لحظة وألقينا نظرة إلى الخلف؟ وتصفحنا متأملين شريط مسارنا وما مضى منه، أملا في أن نضيف لمشوار حياتنا إضافات أخرى أكثر قوة وخيرية ونبل. وستجد أن الذي مضى من عمرك كلمح البصر، وما بقي منه مثل ذلك أو أقل، فماذا تنتظر؟ هل سأل أحدنا نفسه في خضم هذا التزاحم والتنافس والتدافع، ما محلي من الإعراب، وما موقعي في دنيا الناس؟ هل طرحت على نفسك مثل هذا السؤال: لمن أعيش؟ فمن عاش حياته بلا هدف، كان كمن يفقد طريقه في صحراء قاحلة، يتخبط هنا وهناك لا يعرف إلى أين يسير، لأن الذي لا يرسم مقصدا أو غاية يستهدفها في تحركه قد يتجه اتجاهات أخرى، وقد ينحرف عن السكة. كثر هم من يزحفون نحو المجهول، وكثير من يمشي في طريق أحلامه ومصالحه الشخصية، وقليل من يمشي في طريق نهضة الأمة، وإعادة مجدها والتمكين لها، “..وقليل من عبادي الشكور”(آ 13 سبأ). هكذا تخبرنا ملامح الأفراد حين نلاقيهم ونحتك بهم، لسان حالهم يؤكد ذلك. تدبر قوله تعالى: ” ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات…”(آ 148 البقرة) وقوله تعالى:” قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.”(آ84 الإسراء). ويبقى على الحق نور، إذا عرفته عرفت أهله. فأين أنت صديقي العزيز من هذه الجاذبات؟
– هل توقفت فعلا في هذا المحرم 1435هجري واستحضرت أحداث السنة الماضية حلوها ومرها، ما أنت راض عنه، وما أنت عنه نادم ؟هل تأملت في نفسك ونيتك وعملك، ما أنجزت، وما لم تنجز، وما ينبغي أن تنجز؟ هل عدلت وصححت وطورت؟ هل بادرت وساهمت وعاونت، أم أنت متمركز حول ذاتك لم تتقدم قيد أنملة؟ هل أنتجت وأنجزت وأضفت شيئا يميزك عن غيرك، ويدل عليك، أم بقيت دار لقمان على حالها تشكو لربها ظلم العباد؟ الإنسان اٌلإيجابي الفعال إنسان مشغول، والفراغ والسكون هما الهواية المفضلة للمفاليس والكسالى والفارغين. فوا أسفاه لمن ينظر إلى سنين عمره، وقد طوتها الأيام طيا، فلا إنجاز يذكر أو فعلا يخلد.
– هل حقا تعرف من أنت؟ وما يربطك بهذا الكون الفسيح؟ كيف هي صلتك بالله، تنمو أم تضعف، تزيد أم تنقص؟ تفاعلك مع القرآن الكريم كيف هو؟ عباداتك، صلاتك ما حالها؟ قلبك، كيف هو؟ وقتك ماذا فعلت فيه؟ العمل الصالح كيف تفهمه؟ علاقاتك الاجتماعية مع الأقارب والأباعد أين وصلت فيها، هل كسبت أصدقاء جدد أم أضفت عداوات جديدة لأخرى قديمة؟ ما المفضل عندك الأخذ أم العطاء؟ هل تحمل هما غير هم العيش؟ هذه بعض أسئلة، وبإمكانك أن تطرح أنت أيضا أسئلة أخرى، مع العلم أن الأسئلة القوية الجديرة بالطرح تظل حية قوية مادامت تطرق أبواب الفكر كي يظل نشطا حاضرا يقضا، وتتسلل إلى أعماق الفؤاد لتهزه وتثيره كي يحس ويهتم ويتأثر ويتفاعل، فيقبل المرء بهمة غير متردد على الانخراط في مشروع الخير، وعمل الصالحات، وإنجاز المهمات، والسير مع أصحاب الهمم العالية، وحينها فقط يجد الفرد منا ضالته ويحط رحاله، ليبدأ مسافة الألف ميل، في رحلة النشاط والجد والاجتهاد، ونشر رسالة الإصلاح في الأرض، قال الداعية الجزائري نصر الدين سالم الشريف:” إن الصوت المسموع هو صوت عملنا وليس صوت لساننا. ومن علم أن كلامه جزءا من عمله قل كلامه وكثر عمله، فليس اللقب الدعوي هو الذي يرفعنا، إنما عملنا وإخلاصنا لله وأخلاقنا هي التي ترفعنا.” فجدد العزم وجنبني الكلام إنما الإسلام دين العاملين. وقال الشاعر:
في ذات النفس ألا تسمع ** صوتا يدعوك إلى القمـــة
وينادي الذات لكي ترجـع ** وتصاحب في الخير الهمة
إن سرت وضيعت الهدف ** سيضيــع المركب ما سرت
أو دامت أقدامي وقفــــــا ** سيسير الركب وما ســرت
– إنها طريق بدأت ولابد لها من نهاية، فاحرص أخي أن تكون نهايتك مشرقة مشرفة، وعمر أوقاتك، وما تبقى من سحابة عمرك بالخير. واجعل نهضة الأمة دوما أكبر همومك، ففيها نجاتك ونجاحك، وفيها سعادتك وفلاحك. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.
– قد تطول بنا الطريق، وتواجهنا العراقيل والصعوبات، وقد تباغتنا المفاجآت، وقديما قالوا:” الليالي حبالى، تلدن كل عجيب” ولا عجب فهذه طبيعة الطريق. وعلينا أن نعد العدة، ونتزود بكل ما يلزمنا حتى نضمن إنهاء الطريق بسلام ونجاح وفلاح. “…وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودا فإن خير الزاد التقوى، واتقوني ياأولي الألباب.”(آ197 البقرة) “– يتبع.

اترك تعليقًا