أبناء الحركة الواعية بين …ولاء فكرة و …تقديس وسيلة

عندما بُني أوّل صنم في تاريخ البشرية كان قصد مشيّديه إقامةُ ( مثالٍ ) يُذكّر الناظر إليه ويشوّقه إلى نهج ( الأفكار والمعاني ) التي تلوحُ بعيدا من وراء رمزيته ، لا إلى صور أشكال (المباني) التي تظهر في انتصاب صنميّته. ولكن انحرافا طرأ ثمة على هذه الطريقة التربوية في التمثيل ، وأصبحت بموجبه هذه ( الهياكل والوسائل) تقصد بالتقديس كأنها ( غايات ومقاصد). ومن ثمَّ انقلب دورها من وظيفة ( التشويق والتذكير) إلى وظيفة (التفسيق والتضليل

¤جدلية الفكرة و الوسيلة

وقد كشف لنا المفكر الكبير مالك بن نبي رحمه الله تعالى في كتابه شروط النهضة عن القانون الكليّ الذي يحكم العلاقة بين (الولاء) للفكرة الإصلاحيّة، وبين الولاء لوسائلها التي قد تصبح حين اهتزاز ركن ( الفهم) وثنًا صادًّا عن المنهج

قال يرحمه الله: [ومن سنن الله في خلقه أنّه عندما تغربُ الفكرة يبزُغ الصَّنمُ ، والعكس صحيح .ص:28]. أي: أنّ العقول عند انخفاض وعيها تسيطر عليها {الوثنيّة}، فينقلب دورها من إنتاج الأفكار إلى إنتاج الأصنام.

وهذا المعنى الجدلي يُوصي أهل الوعي الإسلامي أن يدركوا أنّ الوسائل التي يتوسّلون بها إلى غاياتهم و أهدافهم الدعوية ، مهما بلغت من الأهمية لا ينبغي أن تصدّهم عن مقتضيات فكرتهم التي آمنوا بها ، وعاهدوا الله تعالى على إلتزام ولائها.

أمّا إن عكسوا هذه المعادلة ، وأخلّوا بهذه القاعدة ، فسيكون حالهم حينئذٍ حقيقًا بوصفي له ب(الوثنية الحركيّة) وسيتماهى حينئذ واقعهم بالواقع القديم للحركة الإصلاحية الجزائرية الذي رصده ابن نبي نفسه في هذا التقرير فقال : [وأصبحت الحركة الجزائرية منذ ذلك الحين لا ترأسها فكرة ، بل تقودها أوثان، وليس يهمنا هنا الشكل بل الموضوع، فليس الخطر من الانقياد إلى نوع من الدروشة ، ولكن الخطر من الانقياد الأعمى إلى الدروشة ذاتها، وليس الخطر أيضا من اسم الصنم، ولكن من سيطرة الوثنية.ص:36].

¤أصنامُنا الجديدة

وهذا النص بالغ في الأهمية،لمن تأمله ، وسيسرف كثيرا في الخطأ كل من يظن أن الصَّراع التاريخي بين الصنم والفكرة قد هدأ و انتهى بعدما ذاع الوعي الاسلامي وانتشر، بل الصّواب أن هذا الصّراع دائم ومتجدد ، وقد يظهر في أوساط الحركة الإسلامية نفسها بأشكال جديدة ، أشار إليها الفيلسوف محمد إقبال رحمه الله بقوله:

تُلوَّنُ في كلّ حالٍ مَنَاةُ … شَابَ بَنُو الدَّهْر وهْيَ فَتَاةُ

أي: أن ذلك الصّنم المسمى (مناة) الثلاثة الآخر المذكورة في القران الكريم، تقوم في كل مرّة بتجديد روحها والمحافظة على شبابها، ومقصوده أنّ (روح الصَّنميّة) تتشكلُ في كلّ حين بأشكال مختلفة، فليس الصنم عنده ذلك (التمثال) اللامع فقط، الذي يَهبُ البركات للمغفلين الذين يطوفون حوله ، أو ذلك (الحجر) الذي تتمسحُ عليه الحبلى بجهلها كي تلد النجيب..، كلا بل قد يكون الصنم في صورة (قائد) ملهم متعال على النقد والخطأ، أو(حزب) اغترّ قادته بكثرة جماهيره المصفقة، وأشيائه وشقشقاته المزخرفة.

¤هلكوا مع الهيكل

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه تفسيره لحقيقة الودُّ الوسُواع وغيرها من الأصنام الواردة في قوله تعالى [ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً] . فقال هي: (أسماءُ رجالٍ صالحين من قوم نوح ، فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً ، وسَمُّوها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تُعبد حتّى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبِدَتْ) .

وظاهر الآية يشير أن العرب قال بعضُهم لبعض : ( لا تذرنَّ ءالهتكم وُدّاً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونسراً )، كما قال قوم نوح لأتباعهم ( لا تَذرُنَّ ءالهتكم ).

ونحن اليوم بعد قرار قادتنا باختبار (ولائنا للفكرة) نخشى أن يوصي بعض أبنائنا وإخواننا بعضهم بعضا قائلين (لا تذرُّن هياكلكم) ؟، فتكون الهلكة، ويحصل الترهل ، وتتكرر المأساة، وحينها يسهل علينا اتهامهم جميعا أنّهم انقلبوا من أهل (عبادة مطلقة) إلى (سدنة معبد) تربطُهم مصالح خاصّة بوثن (الهيكل) الذي بني بالأمس القريب ليكون رمزا يذكر بالفكرة ويشوّق إلى المنهج.

فابتغاءً للسلامة ، واجتهادًا منّا في النصح ، نرشحُ لدعاتنا الأخيار أن يُحيُوا هذه الأيّام (الفقه العمري) الذي يُوصهم بسدِّ ذرائع الفساد، احتياطا للمنهج والفكرة .

ومن تأمل قراره في قطع (شجرة الرضوان ) احتياطا للعقيدة، أو قراره في عزل بعض قادته الأكفاء حين افتتن الناس بقدراتهم، أدرك المعنى الذي ندندن حوله.

وقد قال حين عزل خالدا رضي الله عنه (إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع) وبمثل هذا التبرير كشف في وصيته سرّ عزله سعدا فقال ( إني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ).

¤امتحان الثبات مرة أخرى

وهذا القرار العمري أصيل ، وفيه مع الاحتياط الشفقةُ على القائد والمقود، وبمثل حججه سنقاضي اليوم كلّ أخ منّا لم يحترم قرارنا الجديد في (مولاة الفكرة والمنهج)، كما اقتفى شدته وصرامته قرار جماعة الإخوان المسلمين على قائد من قادتهم حين اختار أن يترشح للرئاسيات بعيدا عن قرارهم الجماعي، فعزلوه ولم يؤيدوه، رغم ثقتهم بقدراته ومواهبه، فاحترام المنهج أولى من رغبات الأفراد.

وصدقوا في كل ذلك فإن (الثبات) ركن من أركان العمل الدعوي، وقديما وعظنا شيخٌ من أشياخنا المشفقين، في معانيه ، فقال كلاما بليغا أذكر منه أنه نَدَبَ إلينا أن نديمَ سؤال ربّنا تعالى تثبيت القلب على دّينه ، ثم قال تأملوا إن شئتم كلمةَ ( واجنبني) من دعاء سيدنا إبراهيم عليه السّلام حين أتمّ بناء الكعبة المشرفة ، ولهج قائلا : ( واجعل هذا البلد آمنا واجنبني ، وبني أن نعبد الأصنام)، كيف أنّه خشي على نفسه المعصومة أن تعبد الأصنام بعد أن صار شيخا كاملا ، وهو من كان قد هدمها حين كان فتىً صاعدا.

¤هدمٌ ..لكنّه بمعْولِ ( البَّنا) ء

يخشى كثير من الساسة المهتمين بالشأن الجزائري أن تشهد بلادنا بعد انتخابات 10 ماي 2012 خرابا مدمرا، يشبه أحداث 11 سبتمبر التي نسفت ب(برجي) التجارة العالمية بنيويورك.

ولكن أهل الوعي الذين حموا بالأمس القريب بلادهم في (عشريتها الدامية) عازمون كلّ العزم أن يجعلوا من تاريخ 11 ماي 2012 – حين ينشغل الناس بجدل النتائج والأرقام، والفوز، والخسارة..- موعدا مفصليا للخروج من النفق، وهدم كلّ الأصنام، والهياكل..وابتداء حركتهم (لبناء) جزائر جديدة تسع جميع أبنائها ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله

اترك تعليقًا