الممارسة السلمية والمشاركة الاصلاحية

 

الممارسة السلمية والمشاركة الاصلاحية
خياران استراتجيان عند الشيخ محفوظ نحناح
بقلم الاستاذ أحمد الدان



◙ ــــ في بداية الثمانينات من القرن الماضي خرج ثلاثة من قيادات الحركة الاسلامية الجزائرية من (السجن ) الذي ادخلوه ظلما وعدوانا على اثر معارضتهم الصريحة والشجاعة لدستور و (ميثاق سنة 1976 )، الذي كان يؤسس لإدخال البلاد في أتون المنظومة الاشتراكية ، وتأميم الملكيات الخاصة ، وتكميم الافواه ،والانفراد بالوصاية على الدولة وتسيير ثرواتها دون إشراكٍ للشعب.

وكان هؤلاء الثلاثة هم الشيخان محفوظ نحناح ومحمد بوسليماني يرحمهما الله واخوهم الثابت الشيخ مصطفى بلمهدي حفظه الله تعالى الذي يرأس اليوم (حركة البناء الوطني ). 
وقد كانت حركة الشيخ النحناح منذ معارضتها الاولى للنظام الحاكم ترى في توجهات سلطته ورؤاها الاقتصادية المستوردة مخالفة صريحة وسافرة لقيم ثورة اول نوفمبر المجيدة التي نصت على الاطار الاسلامي للدولة الجزائرية المستقلة.

◙ حدثان تاريخيان هامان

ولكن حادثتان هامتان وقعتا أثناء خروج هؤلاء الثلاثة النبلاء من سجنهم الظالم لا يمكن تجاوز الحديث عنهما لانهما تحددان في فهمي فلسفة هذه الحركة الناشئة ومسارها ومنهجها في العمل الاسلامي.

الحادثة الاولى: وهي ذات طابع حركي وعملي تمثلت في اتصال الاخ المتحمس المغفور له (مصطفى بويعلي ) يرحمه الله بكلٍ من الشيخين محمد بوسليماني ومصطفى بلمهدي ، فلما التقياه عرض عليهما فكرة أن يتولو هم بدلا عنه (قيادة العمل المسلح ) الذي كان قد بدأ هو اعداده وتنظيمه وذلك قصد اسقاط النظام الحاكم من خلال إعلان الجهاد بقوة الساعد والسلاح ، وقد كان جوابهما سريعا وحاضرا وبسيطا يليق ببساطة ثقافة محدثهم فقالا له : الجهاد في فلسطين يا مصطفى ، وليس في الجزائر.!؟
ولا شك أن هذا الجواب كان صادما له حين صدر من جماعة كان يرى فيها الاهلية الكاملة لقيادة العمل الاسلامي في الجزائر ، ولكنه لم يكن يعلم أن (خيار الممارسة السلمية ) كان محسوما لدى حركة الشيوخ منذ وقت مبكر جدا ، وقبل ان يدخلوا السجن بسنوات انطلاقا من خلفيتهم الشرعية والدعوية التي لا تجرم المخالف ولا تكفر الأنظمة والمجتمعات.

أما الحادثة الثانية: فلها بعدٌ نظري ومنهجي وتمثلت في الاجتماع الذي أُبرم برئاسة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله بداية سنة 1982 وقد دامت مداولاته فترة من الزمن ، وتحددت فيه استراتيجية عمل الحركة وتعاملها مع الدولة والمجتمع ، ورؤيتها للإصلاح ومراحله الاساسية ،وقد تمحورت كل تلك الرؤى في اعداد ورقة مكتوبة منذ ذلك الوقت تؤسس للمشاركة الاصلاحية ولا تزال مخطوطتها المباركة بين يدينا ، وقد تضمنت التنصيص على وجوب الوفاء للشعب ، وعلى مسؤولية النهوض به وسبل توعيته من المواقع المتقدمة ، كما نصت على سلبية سياسات الانزواء والانعزال ، وترك الساحة فارغة للتيارات المعادية للحركة الاسلامية لتتفرد بإرث الشهداء أو تحول الجزائر عن قيمها الاصيلة.

ولاجل هذا يمكننا القول من خلال تحليل خلفيات هاتين الحادثتين التاريخيتين في مسار الحركة الاسلامية في الجزائر أنهما يضعان (المشاركة الاصلاحية و الممارسة السلمية ) في مصاف الخيارات الاستراتيجية الكبرى المميّزة لهذه الحركة ، وهو ما عمقته بعد ذلك التجربة والممارسة السياسية الفعلية التي خاضها الشيخ الرئيس محفوظ نحناح رحمه الله في اصعب الظروف التي مرت بها الجزائر ، والتي كان الكثير من الناس يعتبرونها سباحة ضد التيار ، ولكن الشيخ ومن معه كانوا يصرون عليها لأنهم كانوا يعتبرونها عمق استراتيجيتهم وترجمة حقيقية لوطنيتهم.

◙ آفاق المشاركة عند الشيخ النحاح وفلسفتها

سئل مرة الشيخ المحفوظ عن آجال انتهاء (خيار المشاركة ) الذي تنتهجه حركته؟ فأجاب بما حاصله : أن المشاركة في فهمه تعني الشراكة مع الاخرين حين يحصلون على الاغلبية في السلطة ، وإشراكٌ لهم عندما تكون الحركة هي الغالبة على السلطة ، ثم ترجم ذلك بالشعار التاريخي الذي ابدعه قائلا : (الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع)
وهذا الفهم الرشيد يجعل (خيار المغالبة) خيارا متجاوزا ، بحيث ان (المشاركة الإصلاحية) تجعل المنظومة السلطوية مفتوحة وليست مبنية على قطبين فقط وهما المعارضة والسلطة كما هو الحال في النمطية الغربية لممارسة السلطة والديمقراطية .

و الشيخ محفوظ يعتقد ان (المشاركة) تنطلق من فلسفة (التعاون والتنافس الشرعي) على الخير ، وليس من التنافس المحموم على (الكراسي ) بأية وسيلة و تحت اي غاية كشعار : انا وبعدي الطوفان ، وسبب ذلك أن قاعدة الدعوة إلى الخير والتعاون على البر عندما تترجم كثقافة دولة تتحول مباشرة إلى ثقافة البحث عن القواسم المشتركة التي تعود بالمصالح العامة والنفع العام على الجميع.

وهذه الفلسفة النسبية كفيلة بانتاج (النظام الوطني الجديد) الذي كان يهدف الشيخ الى ايجاده بحيث تشترك فيه جميع المكونات المتجاورة في الوطن الواحد .

و لا تعني (المشاركة الاصلاحية ) أبدا القبول الراضي والتسليم المطلق بخيارات السلطة الحاكمة ، كلا ، بل أخص معنىً فيها هو ممارسة الاصلاح من داخل المنظومة الوطنية ، وبالتواصل معها بدلا عن مقاطعتها ، وهذه منهجية بديعة تنسجم مع (نظريات الدعوة الاسلامية) وهي توفر بسهولة امكانية إصلاح الخلل وممارسة النقد الذاتي البناء من اي موقع ، وليس هدفها فقط هو إزالة الأشخاص ، وتغيير الحكومات والمسؤولين ، وهو ما كان يسميه الشيخ (نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت) 

وهذا الخيار ليس سهلا بل يتطلب قوة عقلية وتربية نفسية راسخة عند من يمارسونه بحيث لا يمنعهم الموقع الذي تكون فيه الحركة أو الحزب من النصيحة (لأئمة المسلمين وعامتهم) ، أو باللغة السياسية الحديثة النصيحة للحكومة وللشعب على حد سواء .

◙ تفعيل المشاركة الشعبية وقاية من داء التسلط وتزوير الحقائق

ولذلك كان الشيخ دائما حريصا على ( الحضور الشعبي ) سواء في الاستحقاقات والمواعيد الانتخابية او في (الرقابة الاجتماعية ) على السلطة ، لأن الدفع بالشعب نحو الاستقالة من الفعل السياسي ، أوالعزوف عن المشاركة في الفعل الانتخابي ، تخدم على المدى البعيد مصالح السلط المستبدة والفاسدة.

وترك الساحة فارغة لا يبرره ابدا سياسات النخب المبتورة عن الشعب من اجل التفرد بالحكم والتي قد تتلاعب بالأرقام والنتائج لتصنع واقع المؤسسات الحاكمة في الدولة بعيدا عن الإرادة الشعبية ، وتعويض ذلك بصناعة الأزمات المخيفة أو مهرجانات الالهاء أو تقسيم المجتمع أو تفتيت القوى السياسية أو بإغداق المال الملهي عن رؤية العيوب وأحيانا بكل هذه الوسائل مع بعضها

فالشعب الحي , والرأي العام الواعي لا ينبغي أن يتخلى عن حقوقه وواجباته في استخدام قوته الناعمة كمصدر للشرعية ، لأن الأنظمة المنسجمة مع شعوبها تصنع الاستقرار، وتستفيد منه في التنمية ، والأنظمة المبتوتة عن شعوبها تظل خائفة من قوة الشعب الكامنة ، والتي يمكن أن تنطلق في أي لحظة فتأتي على الأخضر واليابس .
والقيادة السياسية للراي العام حين تكون راشدة لا تبعده عن الاحداث ولا ترهقه من امره عسرا ، برفع سقفه أكثر من طاقته، بل تتحمل هي مكانه ضغط التناقضات ، وتتيح له ايسر المواقف ، ولهذا لم تعرف مسيرة الشيخ نحناخ أبدا (مصطلح المقاطعة) و لا (سياسة الكرسي الشاغر) وإنما تميزت مسيرته بالاستثمار الكامل للفرص واهتبال المتاح من اجل جلب (مصلحة الوطن) ودفع مفسدته، و تخفيف معاناته ، وكان يستعين بالشعب عند الاقتضاء للمصلحة العليا والمبادئ السامية ، وليس لأجل المصالح الضيقة للهيئات أو للأشخاص.

◙ جمالية خيار المشاركة إنما يُشينها الطمع و التسرع

لا يمكن لاحد أن يزعم أن مسار المشاركة في السلطة الذي انتهجه الشيخ واستمرت عليه حركته بعد ذلك كان خاليا من الاخطاء التي مست عمق الحالة بالنسبة للمراقب السياسي او بالنسبة للمواطن العادي ، ولكن التقييم الحقيقي هو الذي يعرض سيئات المشاركة وسلبياتها امام حسناتها وايجابياتها ، وباعتبار الظرف الزمني الذي بدأت فيه والذي تريد ان تستمر فيه ايضا، وهو الذي ينتهي بنا الى القول ان المشاركة السياسية للحركة الاسلامية في السلطة الجزائرية كانت ضحية الاطماع المستورة ، والعجلة التي ارهقت بعض اطرافها الاخرى ، فورطت الحركة الاسلامية ودفعت بخيار المشاركة الى امتحان صعب ، وقد قال العقلاء اذا اردت هدم فكرة فشخِّصها ثم اضربها في ذلك الشخص ، فإنها ستموت كما يموت الجني المضروب حين يتمّثل في صورة من الصور ، وذلك لان سقوط الاشخاص أسهل من سقوط الافكار .

وستكشف الايام القادمة أن أخطاء المشاركة لم تكن مسرفة ، وقد بدأت كثير من التيارات السياسية في الجزائر تميل نحو هذا الخيار الذي نجح الشيخ رحمه الله في التنظير له.

◙ فكر الشيخ النحناح لم يولد ليموت بل ليحي ويصنع الحياة 

فمعاني (المشاركة ) و(البنائية) و (الوسطية) و(السلمية) … وغيرها من المعاني والافكار التي كانت تحرك الشيخ نحناح وتهيمن على رسم معالم نهجه في العمل السياسي ، ستظل بحول الله تعالى حية وفعالة لان الشيخ لا يربط القضايا السياسية الكبرى بشخصه ، بل بالمصلحة العليا للإسلام ، وللوطن فمع خروجه من السجن لم ينتقم لشخصه بل اسس للمشاركة ، و حين اقصاه التزوير ظلما من منصب رئاسة الدولة الذي فاز به عام 1995 لم يعادي وطنه وأمته بل استمر في استثمار المكاسب لصالح الوطن والشعب من اجل التمكين للإسلام وعدم ترك الساحة التنفيذية للتيارات المعادية للإسلاميين ، وعندما ظلم أيضا عام 1999 وأقصي من حق الترشح والمشاركة وكانت كل المؤشرات تدفعه للانتقام لنفسه ، لم يفعل بل كان موقفه السياسي الذي اختاره موقفا تحالفيا وتشاركيا ، ولما روجع في الامر أجاب ببساطة المربي الصابر قائلا لتلامذته: انا الذي ظُلمت ، وها أنا قد سمحت لمن ظلمني! فلم يمنعه قهر الظلم من كرم التسامح ، ولم يستخفه طيش الظلم الى الانحراف عن خياراته الاستراتيجية. 

ومن مبشرات صلاحية فكرة المشاركة للحياة ما يحدث هذه الايام في تونس التي صرح زعماء الحركة الاسلامية فيها بنفس المنطق الذي انتهجه الشيخ محفوظ رحمه الله مبكرا والذي كانت بعض قيادات هذه الحركة التونسية تنتقده وتعيبه !!

ويبقى التمثل الحقيقي والتمثيل الصادق لأفكار الشيخ نحناح انما يستطيعه بكفاءة فقط ابناؤه الذي تشربوه ومارسوه ، وعليهم وحدهم تقع اليوم مسؤولية تجديد العهد بذلك المنهج المتكامل الذي سينفون عنه انتحال المبطلين وغلو الغالين وتحريف الجاهلين 
ورحم الله الشيخ محفوظ فقد أقر له الجميع بقوة ثابته امام الاطماع والابتلاءات و الاستفزازات .. على أفكاره وآرائه ورؤاه الاستراتيجية في عملية التغيير والاصلاح ، لقوة تلك الافكار في ذاتها وليس للمناصب والمكاسب المحدودة أو الشخصية التي قد يحصلها المشارك. ◙ ◙ ◙

اترك تعليقًا