الإيجابية في حياة الداعية

لقد قادت المناهج التربوية في بعض المجموعات الدعوية ومن خلال الممارسة المستمرة، وحسن الأداء، والمراقبة، إلى تثبيت وترسيخ بعض المفاهيم التربوية بشكل جيد ، ولعل أحد اكثر هذه المفاهيم شيوعاً واستقراراً و تفهماً مفهوم الطاعة في المنشط و المكره، وأدى ترسخ هذا المعنى إلى وحدة الصف، ودفع بعض آثار الفتن، وتفويت الفرص أمام الحركات الضرارية ، كما أدى الالتزام به إلى إتقان تنفيذ متطلبات الحركة، وضمان استمرار حركتها، رغم أن الحاجة لا تزال مستمرة لتوضيح هذا المعنى، والتأكيد عليه من خلال الكتابات الدعوية ، و من خلال المراجعة الدائمة لما كتب فيه.
ولكن لابد في الوقت نفسه، من مناقشة مسألة قد تترافق مع هذا المفهوم الجيد والواضح، إذ أن بعض الممارسات الخاطئة والمبالغة في فهم الطاعة بمفهومها الضيق، دون أن تترافق بمفهوم ( السمع ) الذي يعني التفهم والإدراك والوعي، والذي غالباً ما يرد في النصوص الشرعية مع الطاعة، قد أدى إلى ظهور سلبية كبيرة ألا وهي اعتماد الدعاة في عملهم و تنفيذاتهم اعتماداً كلياً على الخطط، وأن تكون جميع أعمالهم مرهونة بما يصدر إليهم من توجيه، دون الاعتماد على أنفسهم في إيجاد منافذ العمل، أو اتخاذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء، وإنما اتخاذ الموقف الإنسحابي وانتظار تنفيذ الأوامر فحسب.
إن هذه السلبية في الدعاة تحتاج إلى مناقشة ودراسة، لأنها أصبحت تشكل عائقاً في طريق العمل، وأحد أسباب الفتور الواضحة. ولا يمكن أن يقتصر تعليلها على رواسب التربية الخاطئة بمفهوم الطاعة المجردة، رغم أن من المؤكد أن بعض الممارسات التربوية لها أثر في حصول هذه السلبية، إضافة إلى تأثير مجموعة أخرى من العوامل، لعل منها ضعف القابليات الفطرية، والمناهج التربوية المدرسية القاصرة في مدارس العالم الإسلامي، التي لا تساعد على تفجير الطاقات الإبداعية مع عدم توفر الدوافع النفسية والمادية، وجنوح الفرد في المجتمعات الشرقية إلى الانزواء والكسل، وغير ذلك من العوامل التي تشكل بمجموعها أثرا نفسيا بالغا في تكون النفس السلبية.

مفاهيم خاطئـــــــــــــــة

ولا يخفى كذلك عامل إدراك المربين لمفهوم (التقوى) بطريقة خاطئة، ليست على منهج السلف، فالإيماء الذي تتركه بعض كتب التصوف، وارتباط فكرة الخمول والإنسحابية بالتقوى، أو تصور ارتباط الورع بمقدار الابتعاد عن مظاهر الشهرة، أو التأثر ببدعة الإرجاء، قد انعكس بعض ذلك على بعض الدعاة بشكل بيّن في سلوكهم، حتى جاء مفهوم الطاعة ليركز هذا المعنى، فيؤدي إلى اعتماد الدعاة اعتماداً كليا على مربيهم في تنفيذ الواجبات الدعوية ، أو في قضايا التخطيط، وبالتالي تقلصت الجهود الفردية إلى أقصى حد، أو كادت تتلاشى القدرات الإبداعية في الدعاة، فصار لزامآ بحث هذا الأمر كظاهرة دعوية، وإيجاد الحلول لها، وقد يزداد نمو الظاهرة، كما تزداد خطورة المسألة مع مرور الزمن، و خصوصاً عند غياب العناصر القديمة، وتوسع العمل، والحاجة إلى أنماط جديدة من النشاط تحتاج إلى مزيد من العناصر الحية المبدعة. وكذلك فإن توسع قاعدة الجماعة، وتغير ظروف العمل، وامتداد الصحوة الإسلامية، وتباين أنماط التحرك، كلها تقود _ بالضرورة ـ إلى أهمية الاعتناء بتربية الجانب الإيماني في نفس الداعية، وتنمية روح الإبداع الخاص، واستلهام زمام المبادرة إلى الأعمال المثمرة دون انتظار الأوامر والركون إلى الدعة اعتماداً على الخطط وحدها .
فردية التكليف
إن أول دوافع الإيجابية التي يجب أن يتذكرها الداعية هو أن مناط التكليف فردي، وأن كل فرد سيحاسب يوم القيامة فرداً ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وإن كان المرء يحاسب عن عمله في الجماعة، وبعض التكاليف لا تتم إلا بجماعة، أو من خلال تجمع جماعي، ولكن الحساب بالثواب والعقاب لا يكون إلا فردياً، ومن الإيمان بهذا المنطلق يجب أن ينحصر تفكير الداعية فيما يجلب له الأجر، ويقربه إلى الطاعة، دون أن يكون تبعا، وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون الالتفات إلى عمل فلان أو قول فلان، ولا يجب أن تقعده نشوة الطاعة، ولا تثبطه أثقال المعصية، ولا ينتظر الإذن بالعمل من شخص ما، إلا ما كان جزءا من خطة، بل يفكر الداعية بنفسه أنه سيحاسب يوم القيامة عن أعماله، وعما قدم، ولا يسأل عن الآخرين، كما أن عليه أن لا يرنو ببصره إلى غيره، فقد يكون لهم من الأعذار ما يمنعهم عن شيء ما، أو ليس لهم من الهمة والطاقة ما يمكنهم من أداء عمل ما، و يستطيع هو أداءه، فلا يثبطه الشيطان، أو تقعد به ثقلة الحياة الدنيا، والداعية _ بنفس الوقت _ عليه أن ينصب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قدوة عملية أمام عينيه، ولا يجعل الأشخاص الآخرينأياً كانوا مثالاً له، فقد يفتح الله عليه من الهمة أكثر من الآخرين، أو يوفقه الله _ تعالى _إلى عمل يتفرد به، أو إلى فضل يؤثره فيه، فلله في خلفه شؤون، وهو المتفضل على عباده، وقد يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء.
لا تكلف إلا نفسك
لقد توارد معنى الإيجابية، وتكرر في القرآن الكريم بصور شتى وأساليب متنوعة، ليتركز مفهوم فردية التكليف، و بالتالي ذاتية العمل، وما ينعكس عن ذلك من تثبيت مفهوم إيجابية الداعية في العمل والمثابرة، ومنها أوضح آية في كتاب الله_ تعالى _ تحدد معنى الإيجابية، ألا وهي قوله تعالى:
فقاتل في سبيل الله، لا تكلف إلا نفسك، وحرض المؤمنين… “. والمعنى واضح في أمر الله تعالى لنبيه في عدم تكليف أحد إلا نفسه ، وأن لا ينتظر إعانة من أحد، رغم أن المعلوم من الشريعة أن الأمة كلها مكلفة بالجهاد، ولكن المعنى أن يفترض كل مسلم من الأمة_ والقدوة في ذلك نبيها_ صلى الله عليه وسلم _أنه وحده المكلف بالأداء، وأن الله قادر على نصره، وينحصر واجبه في تحريض المؤمنين.
(
كأن هذا المعنى: لا تدع جهاد العدو، والإستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك، لأنه وعده بالنصر..
قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله _ صلى الله عليه وسلم _ بالجهاد، وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصرة.
وقال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط، أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما، فالمعنى_والله أعلم _ أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي _صلى الله عليه وسلم : ” والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي “، وقول أبي بكر _ وقت الردة-: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي )[1]

اترك تعليقًا