لا لتربية من غير تأديب

 

الدنيا دار أسباب ومشروعات ومهمات، فنحن لا نستطيع الحصول على أي شيء قيـّم من غير جهد منظـّم وتعب ونصب، ونحن جزء من مجتمع، وجزء من أمة.

وإن تحقيق رؤيتنا وقيمنا في واقع الحال والوفاء بمتطلبات انتسابنا إلى مجتمع وأمة، إن كل ذلك يتطلب نوعا من الوعي بالمهمات التي ينبغي أن ننجزها

.

تمجيد الإنجاز والعمل الصامت والتشجيع عليه وإظهار الإعجاب به والمكافأة عليه….، كل ذلك من تقاليد الأسرة الناجحة.

إن كل تقدم يحققه أي فرد من أفراد الأسرة المسلمة هو باعتبار ما تقدم وإنجاز للأسرة كلها، ومن ثم فإن على الأسرة كلها أن تظهر سرورها بما يحرزه أي واحد من أفرادها، وأن تحتفل به ونحن نعرف أن الإنسان مهما بلغت إمكاناته ومهما تراكمت نجاحاته ومهما كانت ثقته بنفسه عظيمة فإنه سيظل يشعر بالحاجة إلى الثناء والتقدير وهذا ما لا يصح أن نبخل به.

وبما أن الطفل فرد من أفراد الأسرة وهو مخلوق ضعيف عاجز عن فهم نفسه وفهم مشكلاته وما عليه أن يفعل، وهو يأمل من أبويه دائما أن يساعداه على تجاوز مرحلة الطفولة بأمان، وهما يعملان على ذلك بجد وإخلاص وتضحية، لكن النية الصادقة لا تكفي بمفردها للتعامل مع المشكلات، بل لا بد من تفهم طبيعة مشكلات الأبناء، وتفهم أسبابها وجذورها حتى تكون هناك إمكانية لمعالجتها.

ونحن نلاحظ في هذا السياق: أن كثيرا من الآباء والأمهات يعتقدون أن أبناءهم يجب أن يكونوا عبارة عن نسخ مكررة، فإذا كان الكبير – مثلا – سويًّا وممتازًا، فإنهم يستنكرون أي مشكلة قد يعاني منها أي واحد من إخوته، وهذه النظرة ليست صحيحة إطلاقا، فالأشقاء والشقيقات عبارة عن مخطوطات فريدة، ولكل واحد منهم سماته وخصائصه الشخصية، ولهذا فإن التفاوت – وليس التماثل – هو الأصل في حياتهم.

نحن نعرف أن طبائع الأطفال ليست واحدة، ففيهم المسالم المطواع الهادئ، وفيهم المشاغب المشاكس العنيد، ومن هنا فإن احتياجهم إلى التأديب والصرامة في التربية ليس على درجة واحدة، لكنهم جميعا في حاجة إلى الشعور بوجود سلطة تسدد وتقـّوم وترشـّد وتحول دون قيام الطفل بأشياء غير ملائمة، أو تنطوي على نوع من الأذى لنفسه أو لغيره.

الطفل لا يملك معايير الصواب والخطأ، ولا يعرف اللائق والمناسب من غير اللائق وغير المناسب، وجهازه الأخلاقي غير مكتمل، كما أن قدرته على حجز نفسه عن الوقوع في الأشياء الخاطئة ضئيلة ومحدودة، ولهذا كله فإنه لا بد من ممارسة المنع والحظر والعقوبة والحرمان من بعض الميزات حتى ينشأ النشأة الصالحة المرضية.

الأطفال من جهتهم يعرفون أنهم ليسوا دائما على حق، ولهذا فإنهم يتقبلون العقوبة إذا توفرت فيها بعض الشروط والمواصفات، وهذه بعض المفاهيم والملاحظات في قضية التأديب:

التأديب جهد تكميلي:1

هذه قضية مهمة للغاية حيث إن الذي يساعد على بناء شخصية الطفل على نحو جيد هو تلك المبادرات العاطفية التي يلمسها الطفل من أبويه، وتلك الإرشادات التعليمية والتوجيهية التي يسمعها منهما الطفل من خلال اقتدائه بأبوين محترمين، ومن خلال عيشه في أسرة كريمة يتعلم كل الفضائل التي ينبغي أن يتعلمها، وإن لم يستطع الالتزام بوضوح بما يعرف أن عليه الالتزام به، كما أن العقوبات لا تنشئ طفلا، ولا دولة، ولا مجتمعا، لكنها تحمي الطفل والدولة والمجتمع.

وما ينبغي أن يستغرقه جهد التأديب محدود جدا بالنسبة للجهد الذي أن يبذل في تكوين عقلية الطفل ونفسيته.

القاعدة العامة في هذا هي: «المزيد من الجهد التربوي الإيجابي سوف يقلل من الحاجة إلى التأديب، والعكس صحيح».

التخطيط للتأديب:2

يحتاج تأديب الأطفال إلى تخطيط وإلى رؤية حتى يكون فعـالا ومجديا، لأن اختلاف الأبوين قد يفسد العملية كلها، ولا شك في أن الأبوين من خلال مذاكرتهما المستمرة في شؤون الأبناء تتجمع لديهما بعض الملاحظات على سلوكهم، وعليهما أن يتذاكرا أسلوب معالجتها.

وأعتقد أن على الأبوين أيضا أن يتذاكرا نوعية ردود فعل الأبناء على العقوبات التي قرروا استخدامها حتى يتصرفا تجاهها بحكمة وشجاعة، وإذا لم يتفق الأبوان مع بعضهما أولا، ومع أولادهما ثانيا على بعض المسائل المتعلقة بالتأديب والعقوبة، فإنهما سيشعران أنهما في حالة طوارئ مستمرة، وفي ارتباك دائم.

تأديب حازم من غير قسوة ولا إهانة:3

التأديب الصحيح هو التأديب الذي يحمل رسالة واضحة بالخطأ الذي ارتكبه الطفل، وبضرورة عدم تكراره في المستقبل، وهذا يعني أن التأديب ينبغي أن يتم – على قدر الإمكان – في إطار العلاقة الحسنة بين الأبوين والصغار، لأن العلاقة الدافئة في الحبل السري الذي يتغذى منه الطفل، وينبغي المحافظة عليها بكل وسيلة، واستهداف العودة إليها عقب كل تأديب وكل عقوبة.

الحزم في التربية يعني أننا إذا قلنا كلمة نفذناها، إن التطبيق الحرفي للعقوبة دون تسويف يجعل الأطفال يتنبئون بنتائج أعمالهم، وهذا التنبؤ هو الذي يردعهم عن ارتكاب الخطأ، ويجعلهم يتقبلون العقوبات المقررة، إن تطبيق النظام والعقوبات ينبغي أن يتم بأسلوب عملي صامت وجاد من غير صياح، ولا تهديد، ولا تحذير، ولا مقدمات.

لا بد لنا معاشر المربين أن نفرق بين الحزم والقسوة والإهانة؛ لأن التأديب الحازم يعني أنه منطقي، وحكيم، ومنصف، وبعيد عن الإفراط، ولا يصح اللجوء إلى أي ضرب أساسا إلا إذا كان الطفل أو الفتى يقوم بعمل يعرض حياته للخطر، ولم ينفع معه إلا الضرب.

الشتم والوصف بالغباء والنذالة والخسة… كذلك من الألفاظ التي تنطوي على الإهانة، والنطق بها خطأ، ولا يعد من الأساليب التربوية الناجعة.

لا بد من التزام الأطفال بحد أدنى من التهذيب:4

يجب أن يعرف الأبناء أن هناك عتبة للأدب، لا يصح الهبوط عنها، وهناك حد أدنى للتهذيب لا يصح تجاهله مهما كانت ظروف الولد، ومهما كان مزاجه سيئا ومعكرا، حيث لا يمكن إطلاقا قبول عذر الولد إذا دخل على أبويه ولم يلق السلام عليهما.

ومن المهم أن نوضّح للصغار هذه الأمور، ونؤكد عليها ؛ لأننا نريد من الطفل أن يتعلم كيف يحترم الكبار وكيف يضغط على نفسه، ويضبط عواطفه وانفعالاته.

تحمل النتائج المنطقية:5

من المهم أن نجعل الأطفال يوقنون أنهم حين يسلكون سلوكا معينا؛ فإن عليهم أن يتحملوا النتائج المنطقية التي تترتب عليه؛ لأن هذا سيجعلهم يحاسبون أنفسهم بأنفسهم.

لكل مرحلة عمرية تأديب يناسبها:6

حين يكون الطفل في الثالثة؛ فإنك لا تستطيع عقد اتفاقية معه حول السلوك الذي ينبغي أن يسلكه؛ لأنه لا يعقل ما يقال له، ولا يهتم به ومن هنا؛ فإن العبوس في وجهه حين يقع في عمل خاطئ، أو حين يريد الإقدام عليه قد يوصل رسالة أو معنى إليه، وأحيانا يخطئ الصغير ويسرع ليلقي بنفسه في حجر أمه، فتعرض عنه، وتمنعه من ذلك، فيفهم الطفل أن أمه لا ترحب به.

إن الطفل الصغير يشعر بالحاجة المستمرة للدعم والمساندة والعطف من أمه – على نحو أخص – وإن حجب ذلك عنه يشكل وسيلة تأديبية رادعة.

أما ابن الثالثة عشرة؛ فإن له شأنًا مختلفًا، فهو يشعر بالكثير من الاستقلالية والاستغناء عن أبويه، ومن ثَمَّ فإن حجب التعاطف عنه لا يؤثر فيه، بل يولد لديه بعض الأفكار والانطباعات السيئة عن أسرته، ومن هنا فإن منعه من ممارسة بعض الأشياء التي يحبها، يؤثر فيه أكثر.

عقوبة محددة:7

يجب أن ننظر للعقوبة في سياق التربية على أنها أشبه بـ (تحويلة) نخرج فيها عن الطريق لنعود إليه بعد انتهائها، وكلما كانت التحويلة أقصر وأوضح كان ذلك أفضل، العقوبات التي يوقعها المربي تعكر جو العلاقة بينه وبين الطفل، ولهذا ينبغي أن تكون واضحة ومحددة.

بعض الآباء لا يعرف هذا المعنى، ولا يعرف – أيضا – كيف يعاقب المخطئ ويستعيض عن ذلك بالتوبيخ المستمر، والمعاتبة الدائمة، ولا يكاد ينتهي من تأنيب الطفل على خطأ وقع فيه حتى يصدر منه خطأ آخر، فيجدد الأب – ومثله الأم طبعًا – حملة التوبيخ، وهكذا يظل الجو الأسري مسممًا ومكتئبًا… لا للعقوبات المبهمة، ولا للتأنيب المتواصل، ولا للمحاسبة على كل صغيرة وكبيرة، ولا لفتح الدفاتر القديمة من أجل إغاظة الطفل، وكسر شوكته؛ فهذا كله يضر ولا ينفع.

لا للضرب:8

علينا أن ننظر إلى الضرب في مسألة التأديب على أنه الشيء الذي لا يصح أن نفكر فيه، لا من بعيد ولا من قريب، وعلينا كذلك أن ننظر إلى الحاجة إليه على أنها بمثابة اختبار لنا، فإذا وجدنا أنفسنا مستغنين عنه كنا ناجحين في تربيتنا، وإذا وجدنا أنفسنا محتاجين إليه بوصفه الحل الوحيد كان علينا أن نراجع أساليبنا التربوية؛ لأنها تنطوي حينئذ على خللٍ ما.

إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو أستاذ المربين، وقدوة المعلمين، وما عُرف عنه أنه ضرب صغيرا أو كبيرا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وقد روي عن مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ( ما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خادما ولا امرأة قط ).

المكافأة والعقوبة من الأمور المهمة في تخلي الأطفال عن العادات السيئة، ومن هنا فجيد من الأم أن تمنح الطفل نجمة عن كل عمل جيد يقوم به، وتجمع هذه النجوم أو النقاط نهاية الشهر أو الأسبوع، ويُعطى في مقابلها جائزة مناسبة محفزة.

ويمكن أيضا استخدام أسلوب العقاب عند الحاجة لذلك، والعقاب يكون حسب سنه وبحجم الخطأ المرتكب، ويكون هناك موازنة بين العقاب والخطأ الذي ارتكبه، المهم أن يدرك أن التقصير في أمر من الأمور يوجب له العقوبة، والإنجاز والإبداع والتقدم يكون له مقابل

د/عبد الكريم بكار.

 

                       

اترك تعليقًا