جندية فكرة ودعوة لا جندية غرض ومنفعة
إن عضو الجماعة ليس موظفاً تحكمه ساعات محددة للعمل ، وواجبات معينة لا يتجاوزها. فالواجبات المحددة في اللوائح والتعليمات تشكل الحد الأدنى ، وفوق ذلك مجال رحب ، للمتنافسين في الخيرات. وعلى المرء أن يختار بين الحد الأدنى المطلوب يومياً وأسبوعيا وشهريا وفصليا وسنوياً ، وبين الاستكثار من الخير ، بقدر ما تؤهله له استعداداته ، آخذاً بعين الاعتبار قول الله عز وجل : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). أن الجندية الدعوية التي تعدها جماعة الإخوان المسلمين توجب على صاحبها أن يتحرك في الوسط الذي يعيش فيه ، بين أهله وزملائه ومعارفه. يقدم لهم النموذج ، ويعرفهم بدعوته ، ويدعوهم إليها. فقد علمتنا هذه الدعوة كيف يتودد أحدنا إلى زملائه ، يحسن استقابلهم ويسهم في حل مشكلاتهم ، ويزورهم ويدعوهم ويهدي إليهم ، حتى لو كانت الهدية جريدة أو مجلة أو كتاباً. « لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً حتى ولو أن يلقي أخاه بوجه حسن » كما علمتنا كيف يكون أحدنا قريباً من قلوب طلابه ، بحسن إتقانه لعمله ، وتفانيه في أدائه والعدل بين التلاميذ ، ليشكل كل ذلك الجو المناسب لدعوتهم. وإذا ما رأيت الداعية متجهما نزقا ، متهربا من واجباته ، متذمرا من عمله ، محابيا لفريق ، فاعلم إنه ليس من الإخوان المسلمين ، وأن تظاهر بذلك ، أو سجل في سجلات الإخوان المسلمين.
إن الأخ الذي يقتصر على مهام محددة ولا يترك أثراً إيجابياً فاعلاً في الأسرة والعمل والمجتمع ، ليس جندي الفكرة والدعوة ، الذي يعيش لها ، وإنما رجل وظيفة يؤديها أداء آلياً ، لا يحدث الأثر المطلوب.
أن الأخ المسلم الحق لا يجد سعادته إلا حين يبلغ دعوته ، وينافح عنها ويكسب لها أنصارا ومؤيدين ، وهنا أود أن أنبه إلى بعض الخلل الناجم عن الاكتفاء بالحد الأدنى من المهام الدعوية ، تاركاً الساحة لمن يعيثون فيها فساداً ، ومحملا غيره أعباء ينوء بحملها ، فلا يؤديها حق أدائها ، أو تحمله على اليأس. فالمهمة هنا مهمة مشتركة « هدهد يرتاد ، وسليمان يتفقد ويوزع الواجبات » ومن هنا فقد رأينا بعض الساحات تزدهر فيها الدعوة لوجود الجنود البسلاء في الدعوة إلى الله ، بخلاف ساحات أخرى ، أخذ العاملون فيها الأمر على التراخي ، كما رأينا بعض الساحات المزدهرة تقفر إذا غاب عنها المجلون فيها لسبب من الأسباب. إن القيادة الراشدة ولا أعني هنا القيادة المركزية فقط هي التي تكتشف استعدادات جنودها ، وتطور هذه الاستعدادات ، وتحدد لهم المهام ، وتوفر لهم إمكانات النجاح من تخطيط وإسناد ومتابعة وتقويم ، وأن الجندية العالية هي التي تأخذ الأمر بالعزيمة ، وتستحضر رقابة الله عليها ، وتنطلق من أنها مسئولية أمام الله ، مسئولية فردية ، بغض النظر أحسن الآخرون أمام أساءوا ، « فكل آتية يوم القيامة فردًا ». أن هذا الفهم وهذه القناعة ، يحملانه على أن يرتاد لدعوته الوسائل والأساليب والبيئات ، التي تعين على الانتشار الأفقي والنمو الرأسي ، ويقدم المشروع الإسلامي خطوات إلى الأمام. على قاعدة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وانطلاقاً من هذا الفهم لم أجد في الأسرة يوم انتظمت فيها ما يرفع عني المسئولية أمام الله عز وجل ، الذي أمرنا بالدعوة إليه. (ادع إلى سبيل ربك) ولا يؤهنلي لمرتبة من عناهم بقوله سبحانه : (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ففي بدايات تشرفي بالانضمام إلى الجماعة ، عمدت إلى تشكيل بعض الأسر ، جلها من الطلاب ، ساعدني في ذلك رباط الحب الذي جمع بيني وبينهم ، وتلك نعمة أحمد الله تبارك وتعالى عليها ، فهو المؤلف بين القلوب ، وما أبهج الحياة يوم يعيش المرء في وسط محب مألوف! وما أضيق العيش حين يشعر المرء أنه يعيش في بيئة معادية!
وكنت أحاول اكتشاف اتجاهات الشباب واستعدادتهم ، وأحاول تنمية هذه الاتجاهات والاستعدادات ، من خلال قراءات ونشاطات أراها محققة لهذا الهدف. وكنت استعرض زملائي وطلابي ومعارفي. وكنت أتطلع إلى أن يأخذ كل هؤلاء مواقعهم في هذه الدعوة المباركة. وكم ألمني وأحزنني أن بعض أصحاب الاستعدادات العالية لا يسارعون إلى الانضمام إلى الدعوة، وكنت استحضر في ذهني عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد ، كيف يبطئ في دخول معسكر الإيمان على رجاحة عقله. وحين قدر الله عز وجل لي أن انتقل من معان ، حيث تشرفت بالانتساب للدعوة، وحيث عرفت العمل الإسلامي المنظم إلى بيئة جديدة ، كان اهتمامي منصباً على تأسيس عمل إسلامي فيها. وكان علي أن أتعرف على واقع الدعوة في هذا الموقع الجديد ، وحين سألت المعنيين بالأمر كانت الإجابة مخيبة للظن ، فليس في هذه البيئة أخ واحد ، وإنما هنالك شخص كانت له علاقة سابقة بالجماعة ، ولكنها انقطعت. ورأيت أن أبدأ من عنده ، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة ، فرأيت الرجل قد سلك خطاً آخر ، وإن كان يذكر الجماعة بخير ، ويتمنى لها الخير. ولكنه رأى في خطه الجديد ترجمة لشعار طالما رفعته الجماعة : « الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا » فأدركت أن الزاوية منفرجة ، وزاد في انفراجها أن ما يسميه صاحبنا جهادا في سبيل الله ، نأى أصحابه بعيداً عن روح الجهاد ، بعد أن عمل الهوى والمصالح والتدخلات العربية والدولية عملها فيه. وكان علي أن أتحرك وليس مثل المسجد منطلقاً للحركة والدعوة ، وإن كان التحرك ليس ميسورا في هذه البيئة ، فهي تنفر من العمل الحزبي ، وتخشى من عواقبه كما ذكر أحدهم ذات يوم ، حيث قال : نحن مسلمون ، ومع الإسلام ، ولكن الحزب عندنا يعني الشيطان. ولكن الإعراض والصد لا يثنيان الداعية عن المضي في طريقه ، فحسب المرء أن يخلص النية ، وإن يحسن العمل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم تمض سنوات ، حتى وجدت ثلة كريمة من الإخوان انتظمت في سلك الدعوة ، لتلحق مدنا وقرى سبقتها بسنوات في التعرف على الدعوة.
ورغم حداثة العهد بالدعوة الإسلامية ، والافتقار إلى المؤهلات العلمية ، فقد حرصنا على النهوض بمسئولياتنا. فقد تم تشجيع الأخوةعلى التدريس في المساجد ، ثم الخطابة فيها ، وقد تعززت الثقة يومها بيننا وبين مديرية الأوقاف ، فكان المرحوم محمود علاوي كلما راجعه أهل قرية ، مطالبين بتعيين خطب لمسجدهم ، يهاتفني لتسمية خطيب ، وفي كثير من الحالات لم يكن الخطباء من حملة المؤهلات الشرعية ، لعدم توفرهم ، ولكنهم امتلكوا الإخلاص والرغبة في العمل ، والدافعية للإعداد الجيد. وربما تصدى لهذه المهمة بعض طلبة المرحلة الثانوية ، فقد أقبلت ذات يوم على المسجد ، الذي كنت أخطب فيه ، فسمعت متحدثاً يتحدث فظننته يلقي درساً ، وفوجئت لدى دخولي المسجد حين وجدت شاباً في الصف الثالث الثانوي من شباب الدعوة الإسلامية ، وقد اعتلى المنبر ، حين ظن المؤذن إن الوقت قد حان ، وأن الخطيب تأخر ، فصعد المنبر ، وحين أبصرني هم بالنزول ، فأشرت إليه أن أمض في خطبتك. وبعد انتهائه من الخطبة والصلاة ، حمدت الله عز وجل ، أن أجعل من طلبة المرحلة الثانوية من يمتلك مقومات اعتلاء المنبر. كما انعقدت صلات بيننا وبين القرى المجاورة ، من خلال رحلات قصيرة لنشر الدعوة ، وتعززت العلاقات مع الوجهاء ، من خلال التواصل معهم ، ومشاركة الناس في مناسباتهم الاجتماعية. كما أصبحت المدارس منابر دعوة ، من خلال الإذاعة الصباحية ، ومجلات الحائط ، وحصص النشاط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ الأستاذ حمزة منصور