إذا أردت أن تعرف مستوى التمدن أو التحضر لأي شعب أو لأي أمة أَنزلْ إلى شوارعها واستمع إلى ما يردده شبابها، وبعدها تستطيع أن تطلق حكم قيمة. إن من يغلغل النظر في علل هذه الأمة يجدها كثيرة ومتنوعة، متشعبة ومتأصلة. إن القراءة الصحيحة للواقع خاصة شريحة الفتيان، ومن يقترب منهم ويستمع إلى نقاشاتهم وحواراتهم يقف على مدى تفاهة اهتماماتهم وسفالتها، فهي لاتتعدى الحديث عن طريقة تسريحة الشعر، وعن أنواع اللباس وآخر موضة، أما تعاطيهم مع وسائل الاتصال الحديث كالهاتف النقال، والتواصل مع الشبكة العنكبوتية، فتجدهم بعيدين كل البعد عما ينفع، مركزين ومنجذبين إلى كل ما من شأنه إلحاق الضرر والأذى بعقولهم وقلوبهم وحتى أبدانهم. أما شريحة الفتيات فلسن بعيدين هن أيضا عما يعيشه الفتيان، ولعلى نظرة إلى طبيعة اللباس فقط يكفي للدلالة. وما أكثر من يلعن الظلام دون أن يقدم حلا واحدا. وما أكثر المتفرجين وهم على علم ووعي باستشراء هذه الأوبئة، دون أن يقوم بمبادرة. فما العمل لينقذ المرء نفسه ثم أمته؟ ما الطريقة وما المنهج؟ ما الوسائل والكيفيات والأساليب الكفيلة لإحداث التغيير المنشود؟
إن الأزمة في أساسها فكرية خلقية ثقافية، قبل أن تكون مادية اقتصادية سياسية. فالشرخ في عمقه تربوي ثقافي. فهي أزمة قيم ومبادىء، أزمة ضمائر وقلوب. أزمة وعي بالذات وبالهوية. أزمة ضعف تفاعل مع الموروث الثقافي. أزمة تدين شكلي، أزمة تنشئة، وبالمختصر الشديد أزمة تربية. وهي أمراض ليس من المستحيل علاجها بل من الممكن جدا أن يتعافى منها الجسد ويصلح الحال، إن على مستوى الأفراد أو على مستوى المجموع، بشرط أن تتوفر الإرادات الخيرة، وأن تبذل الجهود المخلصة. إن معجزة القرآن الكريم، وسر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي إحداث التغيير في هذه النفس البشرية، والانتقال بها من الحال التي هي عليه، إلى أحسن حال. فرسول الله صلى الله عليه وسلم غير العقول والقلوب والنفوس أولا وقبل كل شيء، فسبحان مغير الأحوال. “..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم…”(آ11 الرعد) وقد وعد الله عز وجل وضمن تحقق النتائج فقال تعالى:” والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا…”(آ69 الروم) وقال صلى الله عليه وسلم:” الكيس فيكم من دانى نفسه وعمل لما بعد الموت…” (أي جاهد نفسه) .كم هم كثر الذين لم يرتقوا إلى مستوى الوعي بهذه الإشكالات.
الأمة مجموعة أفراد وأسر، والفرد هو اللبنة الأولى والضمان الأوكد لتنمية شاملة، أساسها تنمية بشرية، تسبقها تنمية ذاتية. فالفرد قبل الجماعة، والصلاح قبل الإصلاح. والتشمير لبناء الذات يسبق أي بناء آخر، والتربية تصنع القدوة، أي الإنسان الذي نريد. الإنسان الصالح الذي ذُكر ملمحُه في الحديث الشريف” المسلم كالغيث” وهو الإنسان الفاعل الإنسان الإيجابي. الذي ينهض بنفسه أولا وبأمته ثانيا. فلينظر كل منا إلى نفسه فيبدأ وينطلق متوكلا على الله. وليعلم ان مثل هذا الخطاب معني به وحده، معتقدا أن صلاح الكون والحياة مرهون بصلاحه هو، وأن الخطر الأكبر إنما يكون إذا أهمل هو نفسه. قال المربي الكبير الإمام عبد الحميد بن باديس- عليه رحمة الله:” لايستطيع أن ينفع الناس من أهمل نفسه، فعناية المرء بنفسه عقلا وروحا وبدنا لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس”(مجلة الشهاب)
لقد شاءت حكمة الله عز وجل أن ركبَ في الإنسان عناصر مزدوجة، بعضها يسمو به وبعضها يهوي به وينحدر إلى أسفل سافلين. جعل له عقلا وإرادة، وركَبَ فيه غريزة وشهوة. ثم أغدق عليه من فضله بنعم لا تعد ولا تحصى. وابتلاه بالخير والشر فتنة.فناظر ماذا سيفعل. والنهاية فمعتقٌ نفسُه أو موبقُها.”قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها.”() هنا يأتي دور التربية الصحيحة، التربية الإيمانية العميقة الأصيلة التي تستقي منهجَها وطرائقَها وأساليبَها وغاياتها من القرآن الكريم، ومن هدي النبوة وعبير السيرة العطرة، ومن نفحات خير القرون، ومن سير الصالحين من بعدهم. تربية تحيي الضمائر، وتقوي مراقبة الله تعالى، وتزكي النفوس، وتدفعها للتعاون على البر والتقوى، وتدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترفض الإكراه والعنف. وكما أن الإيمان قوة دافعة إلى فعل الخير، هو كذلك قوة ضابطة تزع صاحبها عن الشر وتلجمه بلجام التقوى، وتردعه عن الإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم..”(رواه البخاري ومسلم)
إن النصر العام يسبقه نصر خاص، وإن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققتْ نصرا داخليا أولا، وحقق كل واحد من أفرادها نصرا خاصا على صعيده الشخصي قبل ذلك. ينبغي أن ننمي ملكة أو مهارة رفض الشر والنهي عن المنكر ما ظهر منه وما بطن حتى تترسخ في أعماقنا، خاصة ونحن في زمن كثر فيه الخلل والخطل، واستحكمت فيه الشبهات والشهوات، وتحدرت فيه أخلاق الناس أسفل سافلين. والحياة من حولنا مليئة بأنواع الفتن والمغريات. ورياح العولمة تعصف من كل جانب تستهدف اقتلاع عقائد الناس وإفساد أخلاقهم، وإشاعة الفواحش والشهوات ليرتع فيها الخلق وخاصة الشباب منهم. لهذا ينصح المربون بالوقاية وتقوية جهاز المناعة الذي تمثله التربية الراشدة. يقول ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر:” دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، ودافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة، وحارب الشهوة فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تفعل صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.”
نعلم جميعا أن للعادات سلطان على النفوس وهيمنة على القلوب. فكن فطنا ولا تدعها حتى تصل إلى هذا المستوى من الضياع والتيه في أوحال الرذيلة، حيث يصعب عندها العلاج ولا أقول يستحيل، فباب التوبة مفتوح إلى الأبد.وسيظل معظم الناس منهزمين أمام أنفسهم ما لم يأخذوا أنفسهم بالعزيمة والمجاهدة والتربية الإيمانية التي تستهدف حماية الإنسان من شرور نفسه، ومساعدته على السيطرة عليها. إنه ما لم يبذل الفرد جهدا في هذا الاتجاه سيبقى مراوحا مكانه، وبالتالي لا تغيير ولاتجديد ولا تطوير على صعيد حياته الشخصية، فأنى له أن يؤثر فيمن حوله، وهو لم يتأثر؟ وأنى له أن يغير، وهو لم يتغير؟ وكيف لبنيان أن يرتفع بهكذا لبنات؟ فمتى ينهض الفرد تنهض الأسرة ، وما الأمة إلا مجموعة أفراد وأسر. إنه لامناص من تنشئة صحيحة سليمة للأفراد وإعداد جيل جديد جيل نظيف، جيل قوي في عقيدته، متين في أخلاقه، جيل محب لوطنه متمسك بدينه معتز بهويته، جيل متعلم مثقف مؤهل لمواجهة كل التحديات الكبرى.
03 /04/2014 /جمال الدين عماري