مُحرّكات النهـــوض
لا تنهض أمة من الأمم ولا تبنى حضارة من الحضارات ولا تقوم لشعب من الشعوب قائمة إلا بثلاث دوافع أو محركات أساسية يجب أن تشتغل مع بعض في وقت واحد وعلى قدم أو ساق , وأي عطل أو فتور في إحداها يجعل الأمة تسقط في الذل والهوان والتبعية والتخلف, ويُسلب منها قرارها في أمورها المصيرية . هذه المحركات الثلاث هي : الإيمان والعلم والعمل .
فالإيمان هو الدافع الأقوى والمحرك الأساسي لكل نهضة ولكل تحرك ولكل هدف عظيم , حتى وإن كان هذا الإيمان يتعلق بأمور غيبية لا أصل لها ولا برهان عليها , أو بخرافات ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان . فالصهاينة اليهود لولا إيمانهم الراسخ بخرافاتهم في أرض الميعاد والشعب المختار والهيكل المزعوم ما تجرأوا على إقامة دولة لهم في قلب الأمة المسلمة على حين غفلة منها . وشعبنا الأبي – وهو يعيش ليل الاستعمار الحالك – لولا إيمانه الراسخ بعدالة قضيته وبأحقيته في أرضه لما تسنى له إخراج المستعمر الفرنسي مذؤوما مدحورا . وكما يقال : يستحيل أن ينجح محامي في قضية هو أول المؤمنين بخسارتها . وكما قال الشاعر الشاب :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل لأن ينجــلي ولابد للقيد أن ينكـسر
وأما المحرك الثاني فهو محرك العلم وهو لا يقل أهمية عن محرك الإيمان . بل العلم إيمان والإيمان علم . فالإيمان علم بما هو موجود وراء حجب الغيب من حقائق لا يمكن الوصول إليها ولا يتسنى للعقل إدراكها . والعلم إيمان بما يجب أن يكون عليه واقع الحال . ويستحيل أن تنهض أمة أو تبنى حضارة بلا علم . فبالعلم نستخرج ثروات الأرض وكنوزها وخيراتها , وبالعلم نكتشف خصائص الأشياء وقوانينها ونطوعها لخدمة الإنسانية . وبالعلم نذلل كل صعب ونقرب كل بعيد ونكتشف كل مجهول . وبالعلم استطاع الإنسان أن يخوض في البحار بمراكب كالجبال قال الله عنها : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ }الشورى32 . واستطاع أن يمتطي الأجواء ويسابق الرياح . بل استطاع أن يخرج من هذه الأرض ويراها من بعيد , كما نرى إحدى النجوم في السماء . وبالعلم استطاع أن يخترق حواجز المكان فأصبحت الأحداث في مشارق الأرض ومغاربها تنقل عبر الشاشات في نفس اللحظة ويراها الناس رأي العين وبصورة أدق مما تراها العين المجردة . وبالعلم استطاع أن يختزن العلم الكثير الذي وصلت إليه البشرية عبر القرون والأجيال في صفائح غاية في الدقة وغاية في الرقة , وأصبحت المكتبات الضخمة مخزنة في نقطة على شريحة من تلك الشرائح . هذا ومهما بلغ علم الإنسان واكتشف يبقى علمه قليلا واكتشافه ضئيلا . والله تعالى يقول : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85
وأما المحرك الثالث فهو محرك العمل . ويستحيل أن تنهض أمة بلا عمل , ويستحيل أن تقوم أمة برمجت استيقاظها على الساعة الثامنة إلا ربع صيفا وشتاء . والنبي “صلى الله عليه وسلم” يقول: بورك لأمتي في بكورها . وفي الأثر : ويل لأمة تأكل مما لا تنتج وتلبس مما لا تنسج . فبالعمل تؤُمِّن الأمة قوتها وتصنع دواءها وتشق طرقاتها وتصنع مراكبها وتحفر آبارها وتبني بيوتها . وبالعمل تقضي على الفقر والتخلف والتبعية . وبالعمل تملك قرارها وتحرر إرادتها وتأخذ مكانها الذي تستحق بين الأمم .
فها أمتنا لديها هذه المحركات الثلاثة ؟ وهل هي تشتغل بالصورة الصحيحة وبالكيفية المطلوبة وبالكفاءة المرجوة ؟
لا شك أن أمتنا تمتلك تلك المحركات وزيادة . فهي تمتلك أيضا محرك التوكل على الله { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }الطلاق3 . ومحرك العدد { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ }الأعراف86 . ومحرك الأخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }الحجرات10 . ومحرك التكامل في إطار التنوع {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 وغيرها من وسائل النهوض .
فالإيمان إنما يتعلق بالحقيقة المطلقة التي لا توجد في دين آخر ولا عند أمة أخرى , والعلم كذلك والعمل كذلك . إنما يتعلقان بتلك الحقيقة . ولا يوجد دين يحث أتباعه ومنتسبيه على العلم والعمل مثل دين الإسلام . والمشكلة عند أمتنا حاليا في هذه القرون المتأخرة أن هذه المحركات التي أحيتها بعد ممات ونهضت بها من عدم وجمعتها بعد شتات ووحدتها بعد فرقة وجعلت منها قوة لا مثيل لها – لم تعد تشتغل بالصورة الصحيحة ولا بالكيفية المطلوبة ولا بالكفاءة المرجوة .
فالإيمان الذي حرك الفاتحين الأوائل وفتح بيت المقدس وحررها من أيدي الرومان ووصل إلى الأندلس غربا وإلى تخوم الصين شرقا لم يعد هو ذاك الإيمان . الإيمان الذي جعل من جندي بسيط مثل ربعي بن عامر يواجه رستم قائد جيوش الفرس قائلا : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . نحن قدر الله لو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم أو لهبطتم إلينا ولا مفر لكم منا . هذا الإيمان الذي حرك أمثال هؤلاء لم يعد يحرك جماهير شبابنا وجموع أمتنا . بل أصبحت الجماهير تحركها وتهيجها مقابلة في كرة القدم . وأصبح نجوم الفن الهابط هم المثل الأعلى لشبابنا .
والعلم الذي هضم ما عند اليونان والرومان من تراث وحضارة لم يعد اليوم قادرا على مواكبة العلوم الأخرى ناهيك عن منافستها . وأول آية من الوحي تأمر بالقراءة .
والعمل الذي كان يتقرب به إلى الله , ويحتسب عبادة يؤجر عليها صاحبها من الله قبل صاحب العمل أصبح اليوم تافها ورديئا ولا يغري أحدا أن ينظر أو يلتفت إليه . بل أصبح عبئا أو عقوبة يُتنصل منها كلما سنحت الفرصة أو واتت الظروف . فيذهب الواحد إلى عمله متأخرا ويحرص على الخروج مبكرا . وهكذا أصبحت الأمة –رغم عددها الضخم- رقما لا يقدم ولا يؤخر ولا يُلتفت إليه . وأصبحت أمورها يُبتّ فيها ويُقضى دون أن تستشار أو تستأذن .
والسبب في ذلك واضح يقول عنه الفاروق عمر “رضي الله عنه”: ( كنا قوما أذلاء فأعزنا الله بالإسلام . فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ). والله نسأل أن يردنا إلى دينه ردا جميلا . وأن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا اتباعه . وأن يهيئ لهذه الأمة من يأخذ بيدها إلى ما يحب ويرضى .
بقلم / المحب أبو طارق