ماذا استفدنا من رمضان؟

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان/ 62]، أي يخلف كلُّ واحد منهما صاحبه يَتَعَاقَبَانِ لا يَفْتُرَانِ، إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب ذاك، وفائدة هذا الأمر كما ذكر ربّنا جلّ جلاله {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، أي: جعلهما يتعاقبان توقيتًا لعبادة عِبَاده لَهُ، فمن فاته عملٌ في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل·
هكذا مرور اللّيالي والأيّام وانصرام الشهور والأعوام، وما حال شهرنا هذا شهر رمضان عنا ببعيد، فقبل أيّام قليلة كنّا نتبادل التهاني بقدومه ونسأل اللّه الإعانة على الصّيام والقيام وها نحن الآن نودعه فلم يتبقَّ منه إلاّ الشيء اليسير· لكن السؤال المهمّ الذي يطرح نفسه في هذا الأيّام وما تتلوه من أيّام، ماذا استفدنا من رمضان؟ ماذا استفدنا من مدرسة الصّيام؟ ما الدروس التي يمكننا أن نخرج بها من تلك الأيّام الفاضلة التي قضيناها في العبادة وتلذّذنا فيها بالطاعة؟
لا يخفى على شريف علمكم أن الدروس كثيرة، لكننا سنعرج إلى جزء منها لكي يكون رمضان لنا محطة تغيير نحو الأفضل في حياتنا، ولكي نستفيد من هذا الشهر الكريم فيلقي بظلاله على كافّة شهور العام، فنكون بذلك حقّقنا ما يصبو إليه الصّيام من فوائد ومنافع·
أمّا أوّل الفوائد من دروس رمضان والصّيام فهو درس التقوى، والتقوى وصية اللّه للأوّلين والآخرين من عباده، هي تقواه عزّ وجلّ، قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلِّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النّساء/ 131]· ومعنى التقوى تقوى العبد لربّه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه، إنه مفهوم عظيم كبير، إذ الصّائم في رمضان كان مستشعرا لهذا المعنى أثناء صيامه، فمبدأ التقوى هو السرُّ الحقيقي في الصّوم، فاللّه يقول في محكم التنزيل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183ومن ثَمّ ينبغي لنا بل يجب أن نستشعر مفهوم التقوى في جميع مناحي الحياة، في رمضان وبعد رمضان، إذ التقوى ليست محصورة في أيّام أو في عبادات أو معاملات معيّنة، بل التقوى شاملة لحياة المسلم كلّها، إن معنى التقوى أي اتّقِ عذابه بطاعته، اتّقِ سخطه برضوانه، اتّقِ الكفر بالإيمان، اتّقِ الشرك بالتوحيد، اتّقِ إتلاف المال بحسن كسبه، اتّقِ سَخَطَ اللّه بحسن إنفاق المال، اتّقِ اللّه في حواسك بأن تجعلها في طاعة اللّه، اتّق اللّه في عينيك، العين بأن تَغُضّها عن محارم اللّه، اتّق اللّه في أذنيك بأن لا تسمع بها إلاّ الحقّ، اتّق اللّه في لسانك بأن لا تقول إلاّ الصدق والحقّ، وأن تنزّهه عمّا حرَّم اللّه من الغيبة والنميمة والكذب وغيرها·
التقوى تكون مع نفسك بأن تلزمها الحقّ وتكفّها عن الباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد/ 28]، التقوى مع أولادك بأنهم تجنّبهم مواطن الردى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم/ 6]، التقوى مع غيرك أن تعاملهم بما يرضي اللّه·
المسلم الذي يتّقي ربّه تكون تقوى اللّه ومراقبته حاضرة معه في كلّ مكان، في بيته وفي عمله، مع نفسه ومع زوجته ومع أولاده ومع زملائه، حينما يكون مع النّاس وعندما يخلو بنفسه لا يراه إلاّ ربّ النّاس·
هذا أوّل الدروس المستفادة من رمضان، أمّا ثاني الدروس وهو درس من الأهمّية بمكان، وهو درس الإرادة، فالمسلم في رمضان يخالف عاداته ويتحرّر من أسرها ويترك مألوفاته التي هي ممّا أحلّ اللّه لعباده، فتراه ممتنعا عن الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان امتثالا لأوامر اللّه، وهكذا يصبح الصّوم عند المسلم مجالا رحبا لتقوية الإرادة الجازمة، فيستعلي على ضرورات الجسد ويتحمّل ضغطها وثقلها إيثارا لما عند اللّه تعالى من الأجر والثواب·
إن هذا الدرس العظيم يقودنا إلى أن نعرف حقيقة في النّفس البشرية أنها قادرة -بعد توفيق اللّه سبحانه- بإرادتها وعزيمتها على الابتعاد عن الحرام، وعليه فمدرسة رمضان كانت درسا مجّانيا لإخواننا المدخّنين بأنه بإمكانهم ترك هذه الآفة الضارّة متى ما هم قرّروا ذلك وسألوا قبل ذلك وبعده العون من اللّه سبحانه· ثمّ إن من أعظم الدروس المستفادة من هذا الشهر العظيم درس المداومة على الطاعة، فشهر رمضان الكريم موسم تنوّع الطاعات والقربات، إذ المسلم في هذه الأيّام الفاضلة يتقلّب في أنواع من الطاعات والعبادات، وهو مع ذلك كلّه حريص عليها، فإذا كان ربّ رمضان هو ربّ جميع الشهور كما نعلم فحريٌّ بالمسلم أن يخرج من مدرسة رمضان بإقبال على الصلاة والخشوع فيها وصلاتها مع جماعة المسلمين، حريٌّ بالمسلم أن يجعل من القرآن الكريم منهج حياة له بتلاوته وتدبّره، ما أجمل أن يداوم المسلم على قراءة القرآن بعد رمضان، وأن يجعل له وردًا يوميا يقرؤه، فيعيش مع القرآن ويكون له بكلّ حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها·
لقد صلّينا في رمضان صلاة التراويح والتهجّد ووجدنا فيها لذّة المناجاة وعظم سماع القرآن، فلنجعل من هذه الدروس مثالا لنا بأن نجعل من ساعات اللّيل نصيبا من صلاتنا وتقرّبنا إلى اللّه ولا يغلبن أحدنا عن صلاة الوتر كلّ ليلة ففيها الأجر العظيم من اللّه·
إن من أجلّ حكم الصّيام غرس القيم والفضائل والخلق الحسن في نفوس الصّائمين، والصّوم ليس حرمانا مؤقّتا من الطعام والشراب، بل هو خطوة لحرمان النّفس من الشهوات المحظورة والنزوات المنكرة، قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام: ـمن لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري· لقد ضرب رسول اللّه مثالا واضحا لحسن الأخلاق في شهر رمضان حين قال: (··· فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إنّي امرؤ صائم)، فيرسم النبيّ في ذكر هذا المثال أوضح المعاني على تأثُّر الصّائم الكريم بالأخلاق الفاضلة·
إن الأخلاق الفاضلة التي يدعو إليها الإسلام تكفل للمتّصف بها أعلى المنازل في الجنّة وأفضل المنازل في قلوب النّاس

اترك تعليقًا