عندما يتحول الردع الميداني إلى ردع سياسي

يقال: “إذا أردت أن تحقق نصراً حاسماً على عدوك، فسيطر على عقله قبل أن تسحق جيشه”. هنا نستنتج أن السيطرة على عقل الخصم وتفكيره هي خطوة أولى تسبق الإشتباك الميداني معه. تاريخياً، تبنت إسرائيل هذا المبدأ، ووظفته وفق الترتيب الذي يقول بشن حرب نفسية مركزة على عقل الخصم، ليتلوا ذلك تحرك ميداني حاسم، ينتهي بتدميره وسحق جيوشه. وليس ببعيد حروب أعوام 1948،1967،1982 كأمثلة حية على ذلك. وحقيقة خطورة هذا المبدأ النفسي، يتمثل في ارتكازه على دراسة مستفيضة للجوانب النفسية والسياسية لدى الخصم، وبالتالي تنفيذ حملة تستهدف صانع القرار السياسي والعسكري فيه، ليخلق لديه حالة من انعدام التوازن، تترجم لاحقاً على شكل أخطاء عسكرية تعطي المهاجم أفضلية النصر الميداني بسهولة ويسر تامين.

ولكن، هل وظفت المقاومة الفلسطينية هذا المبدأ وفق الترتيب السابق؟ أم أن تعديلات أدخلت عليه لتلاءم ظروف الميدان، وطبيعة فهمها للمستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي؟. في هذا السياق، يمكن القول أن المقاومة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، لم توظف المبدأ السابق بتدحرجه المعروف، بل العكس هو الذي حصل. لقد قامت بإعادة صياغته بشكل يساعد في تحقيق أهدافها خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. لقد جاء الردع الميداني كخطوة أولى تسبق الردع السياسي. ولعل هذا التغيير هو ما يفسر حالة التيه السياسي والعسكري التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، كما أنه يفسر ما جاء في إعلان الناطق باسم القسام، أن المقاومة جاهزة لحرب استنزاف طويلة.

 لقد وظفت كتائب القسام الغرور الإسرائيلي في صالحها بشكل لم يسبق له مثيل، فهي سارت وفق المبدأ ” إذا أردت أن تنتصر على عدو متفوق، فلا بد أن تتخذ مسلكاً لا يتوقعه”. فمنذ اليوم الأول، شنت الكتائب حرباً إعلامية تضليلية، تمثلت في بث رسائل نفسية تتراوح بين الجديد والتقليدي. لم يكن الهدف منها سوى تعزيز حالة التفوق والغطرسة لدى الكيان، بصورة تخلق انطباعا بأن الحرب البرية لن تكون بتلك الصعوبة التي قد يتحدث عنها البعض. لقد رسمت شكلاً من المواجهة مفاده أنه لن يتعدى سوى عمليات لإطلاق الصواريخ، ومحاولات لاستهداف الدبابات عن بعد. لقد كان استدراجا نحو ساحة المعركة بطابع إستراتيجي خفي، يتمثل في خلق ذاك الردع الميداني كخطوة أولى نحو تحقيق ردع سياسي، ستبقى تجلياته في حالة التردد الدائم، وإنعدام اليقين لما ستؤول إليه شكل المواجهة، وديناميكيات تطورها وتدحرجها.

وفي هذا الصدد، جاءت عمليات الأنفاق الهجومية كأحد أهم أدوات تحقيق الردع الميداني، ولعل المشاهد التي رافقت العمليات كانت من الأسباب الرئيسية التي سرعت في حالة الردع السياسي اللاحق. فالجيش الإسرائيلي أنحسر بين خيارات عدمية، فهو إما أن يواصل تقدمه نحو كارثة، وإما أن يتراجع فيفقد هيبته. لقد وقع في فخ الإستراتيجية الجديدة، التي دفعته لاحقاً إلى تبني انسحاب بري. المستوى السياسي لم يكن بأحسن حال من تداعيات هذه الإستراتيجية الجديدة، فهو دخل دوامة السؤال حول الهدف من العدوان أساساً. الآن فقط بدءوا يتهامسون حول تكلفة المواجهة، ليصلوا إلى حالة يعبرون فيها عن عدم رغبتهم في اكتشاف ذلك.

نعم، سيسجل التاريخ أن كتائب القسام تفوقت في ساحة المعركة الحالية ليس بحجم استعدادها فقط، بل بدورها في إعادة صياغة تلك الإستراتيجيات الحربية التاريخية، ولتكون إسرائيل أول من ذاق بأسها.

 



اترك تعليقًا