“اعتدال الإسلاميين”…أقوى من الاسلام المعدل

“اعتدال الإسلاميين”…أقوى من الاسلام المعدل

بقلم: أحمد الدان 

(الاسلام المُعدّل) مصطلح سياسي نسيه كثير من الناس ، وكان الرئيس الامريكي جورج بوش قد أطلقه منذ أكثر من عقد من الزمن ليتخذ منه وسيلة لتنفيذ استراتيجية إدارته في حربها على الاسلام من داخل قلاعه.

و لفظة (المعدّل ) من هذا المصطلح المركب هي تلطيف أمريكي ماكر ، يخفي حقيقة مشروعهم في إيجاد نسخة من الإسلام (المحرّف والمشوّه) ، ولكن هذا الكيد الخفي سرعان ما أظهرته حملات العمل المضاد للإسلام الذي بدأ بفرض توصيات بتحوير برامج (المنظومات التربوية ) في العالم العربي والإسلامي من خلال إلغاء تدريس آيات الجهاد ونحوها من المعاني الشرعية، ثم ترقى هذا الكيد إلى (منظومة الأسرة ) من خلال مشاريع ما عرف بالجندرة، والمساوات وغيرها من المشاريع ، ثم تطوّر هذا المكر إلى (المنظومة السياسية) من خلال فرض خيار (اللائكية ) و(الديمقراطية المنقوصة) و(التطبيع مع الصهاينة) ثم ترقى هذا الكيد في مرحلته الأخير ليطال البُنى الفكرية والسياسية لبعض (التنظيمات الحركية الإسلامية) فطبع مناهجها بالغرابة وأفرادها بالتطرف والعنف وأهدافها بالسطحية والشكلية، حتى أصبح هدف إيجاد (الدولة الاسلامية) عند هذه (الحركات المصنوعة) هدف مخيف ومرعب حقا ، فظهرت (الطالبان) ثم (القاعدة) ثم (داعش) وبدأ مسلسل الرعب وتقطع الرقاب . ولم تكن غايات هذا الكيد المتنوع هي فقط محاولات السيطرة على اقتصاد الأمة ومقدراتها، كلا بل كان هدفه الكبير والأساس هو محاربة (النموذج الحضاري) الذي تنتمي إليه أمتنا، ولأجل هذه الحيثية وجدنا التشويه قد طال أيضا (منظومة الاقتصاد الإسلامي) من خلال التسويق لبعض المعاملات والبنوك الربوية وصبغها بطابع (معاملة إسلامية) أو (بنك إسلامي) من خلال فتاوى مبتورة يرسلها أدعياء ودعاة (الإسلام الأمريكي المعدّل).

والعجيب أن منهجية هذه (الاستراتيجية) التي اتخذتها الإدارة الامريكية سلاحا لتشويه الإسلام وضربه هي نفسها المنهجية التي انتهجها (الإنجيليون) لضرب المسيحية كذلك، حيث ألصقوا بها في البداية الخرافة وثم التصهين ثم اللائكية ، و في الأخير اخراج المسحيين الغربيين من دياناتهم السماوية الرحيمة إلى الارتباط بالمادية الجشعة والارتهان إلى دوائر الاعلام و الشركات الكبرى وشبكات الجوسسة الغربية.

وهو درس قديم وليس بالجديد، قد نهجت طريقه من قبل دوائر المكر الانجليزي والفرنسي لضرب (الخلافة الاسلامية العثمانية) يوم ان حركت ضدها دعاة (القومية العربية) ، ثم أبعدتها بالتدريج عن صفاء الإسلام من خلال ربطها بالتصوف، وربط التصوف بالبدع ، ثم أشعلت عليها الحرب باسم محاربة البدع ، وتهدم بنيان الخلافة تحت دعوى الانكار على البدع حينا ، وتحت دعوى مقاومة ( سياسات التتريك ) حينا آخر . وحين بدأت (القومية العربية) تتحول من حالة الاستخدام الى حالة رافضة للهيمنة الغربية تحولت الحرب ضدها هي أيضا ولكن هذه المرة بسلاح أخر هو سلاح (تكفير القومية والقوميين) ونشأ صراع جديد بين (الدين والقومية) صنعته المخابر الغربية .

وتكرر هذا الدرس كذلك في (أفغانستان) ىاستخدم (الجهاديين والجهاد الإسلامي) لإعاقة المد (الروسي ) تحت شعار محاربة الالحاد والشيوعية، وتمكن المجاهدون فعلا من إسقاط الدب الروسي، ولكنهم حين ارادوا اقامة (دولتهم الاسلامية ) وجدوا انفسهم امام رفض غربي سرعان ما تحول على الارض الى حالة دعم (جماعة الطالبان) التي كانت نسخة (جهادية معدلة ) والتي لم تطل أيامها حتى دارت عليها رحى الحرب الغربية حين خرجت هي أيضا عن دوائر السيطرة أو عن الخطة المرسومة لها، وخاصة حين تحالفت مع (القاعدة ) التي أصبحت أجندتها تنطق بضرورة إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وهو تفكير يضر بالوجود الغربي في المنطقة.

وهو ذات الدرس الذي ظهر جليا في حروب الخليج المتتالية، فقد كان شاه إيران يمثل (شرطي المنطقة) فحين أسقطته الثورة الايرانية وامتلكت ترسانته الغربية التي كانت امريكا تنظم بها المشرق العربي، استعمل العراق سلاحا جديد لضرب (ايران الجديد) ، وحين قوى “صدام” نفسه وتمرد على القرار الامريكي في بعض الملفات استدرج هو أيضا وبمكر ظاهر إلى مستنقع وحل انتهى الى تدمير العراق واحتلاله، لان الغرب لا يسمح أبدا لإداة صنعها ان تتمرد عليه وتعرقل خطته.

ومثله أيضا ما حدث في مصر أيام (السادات) الذي اراد أن يعيق التقدم اليساري فأطلق الاخوان من سجونهم الظالمة ، وسمح لهم بالحركة ليستخدمهم سلاحا يضرب به الشيوعيين ، ولكن (الحكمة الاخوانية) فطنة لمكره واتجه الاخوان الى العمل الاجتماعي والتربوي ولم يضعوا أنفسهم في اجندة الاحتراب الداخلي فتغلبوا (باعتدالهم) على استراتيجيات الاحتواء والاستغلال ، ووصلوا أخيرا الى الحكم فعوقبوا على (سلميتهم ) وشعبيتهم ، وأثبتوا وطنيتهم حين جاءت السفيرة الامريكية لتفاوض الرئيس المنتخب على مسألة التنازل على شرعيته ، فلما رفض قالت له يمكنك مهاتفتي من السجن ، إن قررت التراجع عن خيارك ، وتأكد الاخوان مرة أخر بعد هذه الحادثة زيف “الإدارة الأمريكية ” التي تخوض الحروب تحت دعوى (حماية الديمقراطية).

ويتكرر الدرس نفسه هذه الأيام مع الحوثيين الذين استدرجوا ليكونوا اداة يُضرب بها (الاخوان المسلمون) في اليمن ، وحين تفطن الاخوان وحلفاؤهم للمؤامرة ونأوا بأنفسهم عن الاحتراب الداخلي وجنبوا بلادهم عملية التدمير الذاتي ، الذي كانت أمريكا تخطط له ما فتح العاصمة صنعاء امام الحوثيين، فارتبكت خطتها وجدت نفسها وحلفاءها بعد (الحكمة الإخوانية) أمام حالة تنذرهم بقيام (العاصمة الرابعة) للشيعة في المنطقة ، وقد بدأ خططهم الاستدراكية لاحتواء هذا المشهد تشتغل، والعجيب أن كل هذه الدوائر الغربية سكتت أولا عن وصف الحوثيين بالإرهاب رغم أنهم فصيل مسلح وليس لهم أي وجه من الرسمية ،واقدموا على احتلال عاصمة دولة عضوة في الامم المتحدة ، وسر ذلك ان ساحة اليمن قابلة لاستمرار التجربة دون تهديدات استراتيجية للغرب ، واما تهديد الحوثيين للسعودية فليس مصلحة غربية مباشرة في ظل التقارب الامريكي الايراني الجديد ، وفي المقابل تلصق تهمة الإرهاب بالاخوان المسلمين في كل من ليبيا و مصر ، مع ان شعوبهم هي من جاء بهم الى مواقع المسؤولية والحكم.

وهذا المشهد نفسه يكرر اليوم مع (داعش) التي كانت فصيلا متولدا من رحم (القاعدة) فقد سُمح له بالضغط في منطقة محدودة ، لكن يظهر أنه تجاوزها فجأة وسيطر على مصادر المال والنفط في جزء من سوريا ، وقرابة نصف العراق فاستدعى الامر تجييش (حلف دولي) تقوده الدولة العظمى لمحاربة فصيل مسلح موصوف بالارهاب ليس لأنه ارهاب حقيقي ،ولكن لانه تجاوز المدى المرسوم له ، والمساحة المحددة لتحركه في المنطقة في الخطة الغربية العامة.

وعندنا في الجزائر درس شبيه بهذه الدروس حدث خلال الثمانينات بعد انتشار الصحوة الاسلامية في أوسط الراي العام الجزائري، حتى كادت الحركة الإسلامية أن تقتطف الثمرات السياسية لأعمالها ولكن مجهود السنين أجهضته قفزات مجنونة لدعاة من نمط دعاة (الاسلام المعدّل) الذين استعجلوا، ثم لم يلبثوا حتى استدرجوا إلى العنف والارهاب ،فانتكست المسيرة، والشاهد أن الحراك الإسلامي العنيف والحاد هو الذي اسقط حكم الوطنيين(جبهة التحرير الوطني) ، ثم ما لبث الحراك الاسلامي ان تجاوز الخطوط المسموح له بها فكان لا بد من انهاء حالته بالاحتواء فلما صعب الامر ألغي المسار كله ،وفتحت المعتقلات للشباب الجزائري ، وأدخلت الجزائر في مسار آخر وآليات اخرى واحتياطات اكبر من تكرار التجربة وبتضحيات جسيمة دفعها الوطن والمواطن من سيادته وحريته وقوته وتنميته.

ولهذه الدروس مشابهات أخرى في اقطار عديد من السينغال الى الصومال الى جاكرتا ، حيث تسعى القوى الغربية المهيمنة الى ضرب الامة باستخدام السلاح الذاتي فيها ممثلا في عقيدتها، وبمكوناتها الرمزية وعلى رأسها (المملكة السعودية ) التي رعت قديما الحرب ضد (الخلافة العثمانية) نيابة عن الدول الغربية تحت دعوى الحرب على البدع ، ورعتها ثانيا نيابة عنهم في أفغانستنان ضد (الروس ) تحت راية الحرب على الالحاد ، ورعت كذلك ضد (الايرانيين ) تحت عنوان الحرب ضد التشيع ، وترعها اليوم نيابة عنهم ضد (الاخوان المسلمين) تحت مزاعم الحرب على الإرهاب، ومن خلال نفس القاعدة البوشية وهي صناعة “الاسلام المعدل اأو المشوه ” والتي جعلت الشباب السلفي للأسف الشديد يصبح اليوم هو القوة المعيقة أمام الخطوة الأخيرة في انتقال (الدعوة الإسلامية) من الصحوة إلى مرحلة ( الحكم الإسلامي ) وذلك بانسياقهم تحت سلطان الفتاوى المتناقضة التي تحرم الخروج عن الحاكم في بلد ، وتبيحه في بلد آخر متقارب في الزمان والمكان والحيثيات كيلا بمكيالي الغرب البوشي بيد اسلامية.

ولكن (الاسلام الحق) سيظل محفوظا ولن تطاله صبيانيات مشاريع التشويه الامريكية بسوء رغم انتفاخها وصولجانها بل سيتمرد عليها كما تمرد في كل مرة على التدجين ، ويطلق روح الرفض والاحتواء ويخرج عن الحدود المرسومة له ، وبذلك يظل القوة المميزة عقيدة تخالط النفوس فتعليها عن المقاربات المادية البحتة بقاعدة “وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين ” ولا يمنع ذلك من سقوطها في ايد تنحرف بها عن الحقيقة الاسلامية لعجز ابناء الامة او سذاجة في بعضهم او استعجال صارف عن سنن التغيير الحق الا انها لن تستمر طويلا في السياق السلبي حتى يقيض الله لها من يعيد الامة الى الصراط السوي وينطق بعلامات فتن الزمان.

وهذه (الاستراتيجية) في التشويه الإسلام ستعرف فشلها الذريع قريبا لأنها اتخذت في مؤسسة (البنتاغون) الأمريكية ضمن تفاصيل قرار العولمة ،الذي بشرت بعض دوائر الفكر والتنوير في أمريكا فشله واستعجاله.

وأما الحالات الشاذة في بلداننا فقد عودتنا دروس التاريخ أن لهيب نارها المرتفع لن يطول رغم بلائه وشره لان وقوده من غثاء سيل سرعان ما سينطفئ وتنقلع أعواده المجتثة من شجرتها والتي ليس لها قرار ، وسيبقى نور الله ينتشر بالايمان وبالتضحية وبالرفق وبالتميز وبالاعتدال وبالسلمية وبالصبر على ما يأفكون .

أما الإسلام الحق فلن يطفؤا نوره” والله متم نوره ولو كره الكافرون ” “الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كانها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ” ◙◙◙

اترك تعليقًا