حب التصدر والظهور ـ حيدر الصافح.

 

إن حب المال والشرف والتصدر والعلو والظهور على مسرح الحياة فتنة تقصم الظهور، وتأتي على دين الإنسان بالخراب والفساد، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي والدارمي وغيرهما بسند صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه».

والمعنى المقصود: هو أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين الضاريين للغنم؛ لأن الأشر والبطر يفسدان صاحبهما عن طريق المال والجاه.

أما المال فلأنه يدعو إلى التنعم بالمباحات والتوسع فيها فينمو الجسم على ذلك، ولا يمكنه الصبر عن الملذات والشهوات ومن المحال دوام الحال؛ إذ لا يمكن للإنسان استدامة التنعم إلا بالاستعانة بالناس والالتجاء إلى الظلمة ومداهنتهم، وذلك لا يحصل إلا بالنفاق والكذب.

وأما الجاه فإنه أعظم فتنة من المال؛ لأنه ينطوي على حب الترفع والعلو والكبرياء وبطر الحق وغمط الناس، وفي ذلك من الرياء والعجب ومنازعة صفات الرب ما فيه!!

إن التطلع إلى المال والثراء والتصدر والقيادة له ثمنه الباهظ يدفعها المرء من دينه وعرضه.

الباحث عن المال والصدارة يحرص غالباً على إرضاء الناس الذين يهتفون باسمه ويضفون عليه ألقاب المديح والثناء، يبحث عن الصيغ والمبررات لمجارات أهوائهم وشهواتهم، ويركب الصعب والذلول ليظهر بمظهر العظمة والكبرياء، وينفث الشيطان في نفسه وينفخ في روعه بأنه وحيد قرنه ونادرة زمانه.

وأقبح ما يكون هذا الخلق حين يصدر من عالم أو داعية، وإن من فتن العصر هذه الفضائيات التي أظهرت المخبوء وكشفت المستور، والتي تصدر لها غالباً من لا يستحق وتكلم فيها الرويبضات في أمر العامة، وغدت الفضائيات والمواقع الالكترونية مكاناً للشهرة والثراء على حد سواء، ويكثر في هذا الجو زيغ الحكماء التي حذر منها معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال: “أحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم“، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال الرواي:” قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى. اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات: أي الكلمات المشتهرات بالبطلان التي يقال لها: ما هذه؟” أي: يقول الناس إنكاراً في شأن تلك المشتهرات ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً”.

 

والمعنى: لا يخفى عليك كلمة الحق، وإن سمعتها من المنافق لما عليها من النور والضياء، وكذلك كلمات الحكيم الباطلة لا تخفى عليك؛ لأن الناس إذا سمعوها ينكرونها لما عليها من ظلام البدعة والباطل ويقولون إنكاراً ما هذه؟ وتشتهر تلك الكلمات بين الناس بالبطلان أخرجه أبو داود.

وحرصاً على دعاتنا وعلمائنا من الوقوع في هذه المنزلقات فإننا نذكرهم بالمسئولية والأمانة الملقاة على عاتقهم، وأن يوفوا بعهد الله وميثاقه في بيان الحق وتوضيحه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].

إن على العلماء والدعاة إلى الله أن يصدقوا مع الله ويخلصوا له وأن يحذروا من الرياء والسمعة؛ فإن الشيطان حريص على أن يفسد الأعمال وذلك بتزيينه حب الشهرة والظهور والتميز على الأقران وإظهار البراعة وعمق الثقافة والتعالي على النظراء والزملاء وإرضاء الناس بسخط الله وليحذروا غاية الحذر من القول على الله بغير علم حتى لا يضلوا الجماهير بأقوال سقيمة وفتاوى ماجنة وآراء شاذة لا يعضدوها برهان ولا دليل ولا كتاب منير.

فإن القول على الله بغير علم من الجرائم الجسيمة والموبقات العظيمة وفي زلة العالم زلة للعالم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

إن مما يزيد الأمر سوء والطين بله تصدر الجهلاء على العلماء، والوضعاء على الرفعاء، حين يحدث هذا وتخلو الساحة من علماء ربانيين يخشون الله ويتقونه فيحق لنا أن نردد ما قاله القاضي عبد الوهاب المالكي المتوفى سنة (422هـ) وقد أحسن فيما قال:

متى يصل العطاش إلى ارتواء *** إذا استقت البحار من الركايا

ومن يثنى الأصاغر عن مراد *** وقد جلس الأكبار في الزوايا

وإن ترفع الوضعاء يوما *** على الرفعاء من إحدى البلايا

إذا استوت الأسافل والأعالي *** فقد طابت منادمة المنايا

 وفي الحديث المتفق على صحته: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق علماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسألوا فأفتوى بغير علم فضلوا وأضلوا».

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

المصدر: الإصلاح نت

اترك تعليقًا