وقفات تربوية مع شهر شعبان

شهر شعبان هو الشهر الذي فيه تُرفع الأعمال إليه سبحانه وتعالى؛ فقد روى الترمذي والنسائي عن أسامة بن زيد من حديث النبي : “… وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ”. ففي هذا الشهر يتكرَّم الله على عباده بتلك المنحة العظيمة؛ منحة عرض الأعمال عليه سبحانه وتعالى، وبالتالي قبوله ما شاء منها.
وهنا يجب أن تكون لنا وقفة تربوية؛ فإن شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله؟
هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى -تبارك وتعالى- القائل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. فهل تحب أن يُرفع عملك وأنت في طاعة للمولى وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية؟ أم تقبل أن يُرفع عملك وأنت في سكون وراحة وقعود وضعف همة وقلة بذل وتشكيك في دعوة وطعن في قيادة؟
الحياء من الله:
ففي الحديث السابق بُعْدٌ آخر يجب أن نقف معه وقفةً تربويةً، فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهدي في العمل القلبي والبدني في شهر شعبان، ويتجسد الحياء من الله ونظره إليه بقوله: “..وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”. ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله بألا يراه الله إلا صائمًا، وهذا هو أهم ما يجب أن يشغلك أخي المسلم، أن تستحي من نظر الله إليك، تستحي من نظره لطاعات قدمتها امتلأت بالتقصير؛ ولذلك قال بعض السلف: (إما أن تصلي صلاة تليق بالله جل جلاله، أو أن تتخذ إلهًا تليق به صلاتك).
وتستحي أيضًا من أوقات قضيتها في غير ذكر لله، وتستحي من أعمال لم تخدم بها دينه ودعوته، وتستحي من همم وطاقات وإمكانيات وقدرات لم تستنفذها في نصرة دينه وإعزاز شريعته، وتستحي من قلم وفكر لم تسخره لنشر رسالة الإسلام والرد عنه، وتستحي من أموال ونعم بخلت بها عن دعوة الله، وتستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحيفتك من تقاعس وتقصير، وتستحي من كل ما يراه الله في صحيفتك من سوءات وعورات، كل ذلك وغيره يستوجب منك -أخي الحبيب- الحياء من الله والخشية منه.
مغفرة الذنوب:
فإن شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد فإن لله في أيام دهركم أيامًا وأشهرًا يتفضَّل بها الله على عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها على عباده بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، وهو هديةٌ من رب العالمين إلى عباده الصالحين؛ ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي شأنها في قوله: “يطِّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن”.
هي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته وجماعته، وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود، وليكن شعارنا جميعًا قوله تعالى: “رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” (الحشر: 10).
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة. وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو.
وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه، هي فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”. هي فرصة إذن لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب وناصعة البياض بالطاعة.
سنة نبوية:
شعبان هو شهر الهَدْي النبوي والسنة النبوية في حب الطاعة والعبادة والصيام والقيام؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: “ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان”.
ولشدة معاهدته للصيام في شعبان قال ابن رجب: (إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور). وقال ابن حجر: (في الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان). وقال الإمام الصنعاني: (وفيه دليل على أنه يخص شهر شعبان بالصوم أكثر من غيره).
وذكر العلماء في تفضيل التطوع بالصيام في شهر شعبان على غيره من الشهور “أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده؛ وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض.
دورة تأهيلية لرمضان:
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهِّز برنامجه في رمضان، ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات.
ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمنزلة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان، فهو دورة تأهيلية لصيام رمضان؛ حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد في صيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، وحتى يتحقَّق هذا الأمر؛ فهذا برنامج تأهيلي تربوي يقوم به المسلم في شهر شعبان استعدادًا لشهر رمضان المبارك:
أ- التهيئة الإيمانية التعبدية:
– التوبة الصادقة أولاً، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي وترك المنكرات، والإقبال على الله، وفتح صفحة جديدة بيضاء نقية.
– الإكثار من الدعاء (اللهم بلغنا رمضان)؛ فهو من أقوى صور الإعانة على التهيئة الإيمانية والروحية.
– الإكثار من الصوم في شعبان؛ تربيةً للنفس واستعدادًا للقدوم المبارك.
– العيش في رحاب القرآن الكريم، والتهيئة لتحقيق المعايشة الكاملة في رمضان، مع وجود جلسات تدبُّر ومعايشة القرآن.
– تذوَّق حلاوة قيام الليل من الآن، وتذوَّق حلاوة التهجد والمناجاة في وقت السحَر.
– تذوَّق حلاوة الذكر، وارتع في “رياض الجنة” على الأرض، ولا تنسَ المأثورات صباحًا ومساءً، وأذكار اليوم والليلة، وذكر الله على كل حال.
ب- التهيئة العلمية:
– قراءة أحكام وفقه الصيام، ومعرفة تفاصيل كل ما يتعلق بالصوم، ومعرفة وظائف شهر رمضان، وأسرار الصيام.
– قراءة بعض كتب الرقائق التي تعين على تهيئة النفس.
– مراجعة ما تم حِفْظُه من القرآن الكريم؛ استعدادًا للصلاة في رمضان، سواءٌ كنت إمامًا أو منفردًا، والاستماع إلى شرائط قراءات صلاة التراويح، مع دعاء ختم القرآن.
ج- التهيئة الدعوية:
– إعداد وتجهيز بعض الخواطر والدروس والمحاضرات والخطب الرمضانية والمواعظ والرقائق الإيمانية والتربوية للقيام بواجب الدعوة إلى الله خلال الشهر الكريم.
– حضور مجالس العلم والدروس المسجدية المقامة حاليًا؛ استعدادًا لرمضان والمشاركة فيها، حضورًا وإلقاءً.
– إعداد هدية رمضان من الآن لتقديمها للناس دعوةً وتأليفًا للقلوب، وتحبيبًا في طاعة الله والإقبال عليه.
د- التهيئة الأسرية:
– تهيئة مَن في البيت من زوجة وأولاد لهذا الشهر الكريم، وكيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم، ووضع برنامج لذلك.
– الاستفادة من كتاب (بيوتنا في رمضان)، وكتيب (الأسرة المسلمة في شهر القرآن).
هـ- تهيئة العزيمة بالعزم على:
– فتح صفحة جديدة مع الله.
– جعل أيام رمضان غير أيامنا العادية.
– عمارة بيوت الله، وشهود الصلوات كلها في جماعة.
– نظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو والرفث.
– سلامة الصدر.
– العمل الصالح في رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن، ومن تلك النيات: (نية التوبة إلى الله، نية فتح صفحة جديدة مع الله، نية تصحيح السلوك وتقويم الأخلاق، نية الصوم الخالص لله، نية ختم القرآن أكثر من مرة، نية قيام الليل والتهجد، نية الإكثار من النوافل، نية طلب العلم، نية نشر الدعوة بين الناس، نية السعي إلى قضاء حوائج الناس، نية العمل لدين الله ونصرته.
chanae

اترك تعليقًا