من مبشرات الحج

aca93-1
أيها الأخوة المسلمون في هذه الأيام المباركة يرحل الناس من كل فجٍّ عميق، من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها إلى بيت الله الحرام، ليؤدوا هذه الشعيرة العظيمة شعيرة الحج التي فرضها الله تبارك وتعالى على كل مسلم ومسلمة في العمر مرة متى استطاع إليها سبيلاً، يقول الله عز وجل “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * ِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” “مَنْ كَفَرَ” أي من أعرض عن الحج ولم يستجب لأمر الله تعالى وهو قادر عليه وضع مكان هذه الكلمة “من ترك الحج”.. “من كفر” كأن هذا كفر بالله والعياذ بالله “وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ”..

ومن فضل الله تبارك وتعالى أنه جعل الحج فريضة مرة واحدة في العمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه “أيها الناس قد كُتِب عليكم الحج فحجوا” فقال رجل: “أفي كل عام يا رسول الله ؟”فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأعاد الرجل السؤال وسكت النبي مرة ومرة ومرة ثم قال “لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم” إن من فضل الله أنه فرض هذه الفريضة في العمر مرة واحدة وهي فريضة متميزة وعبادة شاملة.

العبادات الظاهرة والباطنة
نوَّع الإسلام في عباداته فهناك العبادات الظاهرة والعبادات الباطنة، العبادات الظاهرة هي التي تؤدى بالجوارح ويراها الناس ويحسونها بأعينهم وجوارحهم، والعبادات الباطنة عبادات القلوب مثل: حب الله والإخلاص له والإنابة إليه والتوكل عليه والرجاء في رحمته والخشية من عذابه.. إلى آخر هذه الأعمال التي تتجسد فيها تقوى القلوب والتي هي موضع نظر الله تبارك وتعالى قبل كل شيء “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلي قلوبكم” وهذه الأعمال الظاهرة منها العبادات البدنية والعبادات المالية والعبادات الفعلية والعبادات التَركية، هناك عبادات تفعل فيها شيئاً، وهناك عبادات تترك فيها شيئاً وهي الصيام لأنه إمساك وامتناع عن المفطرات تقرباً إلى الله تبارك وتعالى عن شهوتي البطن والفرج..

وهناك عبادات بدينة تؤدى بالبدن وبالمشقة البدنية مثل الصلاة والصيام وعبادات مالية تؤدى ببذل المال الذي هو شقيق الروح “وأحضرت الأنفس الشح” ، “وكان الإنسان قتوراً” مثل الزكاة والصدقات وهناك عبادات جامعة بين البدنية والمالية مثل الحج والجهاد في سبيل الله، فالحج عبادة بدنية مالية، أي إن الإنسان يتعب فيها ببدنه، أراد الله أن يكون الحج في ذلك الوادي، وادٍ غير ذي زرع، لم يجعل الله الحج إلى أراض مثل لبنان أو سويسرا أو غير ذلك، جعله في هذا الوادي غير ذي الزرع، ليكون رحلة مكافحة ومعاناة ويعيش الإنسان فيها أياماً أشبه بحياة الكشَّاف الجوَّال، يعيش عن البساطة والخشونة ينتقل من هنا وهناك، يعيش ويحيا على أقل ما يمكن من الوسائل، يمكن أن ينام على ذراعه، كأن يجعل ذراعه وسادته..

الحج قديماً وحديثاً
وإن كان الحج في عصرنا قد تطور كثيراً وأصبح أيسر مما كان في الزمن الماضي، يسَّرت الوسائل الحديثة أمر الحج، ذكر الإمام النسفي أن رجلاً كان يطوف بالبيت فسأله أحد الطائفين: من أي بلد؟ فذكر له بلداً بعيداً، قال: متى خرجت من بلدك؟ قال: أترى رأسي هذا، قال: أترى فيه شعرة سوداء؟ قال: لا، قال: خرجت من بلدي وما في رأسي شعرة بيضاء وأنا الآن ليس فيه شعرة سوداء، يعني كان يخرج من بلد إلى بلد يعيش في البلد فترة من الزمن يعمل فيها ويدَّخر بعض المال، ثم يذهب حتى يصل إلى البلد الآخر بعد شهر أو كذا ثم يعيش في هذا البلد فترة فلم يصل إلى الحج إلا بعد أن صار هكذا..

الآن من أي بلد في الدنيا بعد ساعات يكون الحاج قد وصل إلى البلد الحرام، أي يتسير يسَّره الله للناس في عصرنا، ولذلك المهم أن الحج فيه بعض المشقات ولاشك فلذلك هو عبادة بدنية وعبادة مالية لأن الإنسان لابد أن يدفع ثمن المواصلة التي توصله بالبر أو بالبحر أو بالجو حسب ما تيسَّر له، وحسب ما يليق بحاله وبقدرته وأوضاعه المالية، فمن استطاع سبيلاً إلى الحج وجب عليه أن يحج.

بادروا إلى الحج عند القدرة
اختلف العلماء هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟ والذين قالوا أنه على التراخي قالوا أنه إذا فاته الحج بعدما قدر عليه فإنه يتحمل المسؤولية، يتحمل إثم التأخير، إذا افتقر بعد غنى وأعسر بعد يسر أو مرض بعد صحة أو مات وكان قد قدر في وقت ما، فهو يتحمل مسؤولية التسويف والتأخير ولهذا فالأحوط للمسلم إذا قدر على الحج ولم يكن عنده ظروف تمنعه أن يبادر به..

كما جاء في الحديث “تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له” فقد يمرض الصحيح ويشيخ الشاب ويفتقر الغني ويموت الحي فلنستبق الخيرات، الاستطاعة إلى الحج تعني أمرين، الاستطاعة المالية والاستطاعة البدنية أن يكون لديه من المال ما يستطيع به الوصول إلى البلد الحرام ولو بأيسر السبل، يعني لو كان يستطيع أن يذهب بالسيارة وليس عنده نفقة الطيارة فليذهب بالسيارة، وإذا كان يستطيع أن يبقى كما يقولون الآن الحج السريع..

الحج عبارة عن خمسة أيام أيها الأخوة ويمكن تكون أربعة أيام، يعني يوم التروية وهو يوم 8 ذي الحجة، ويوم عرفة ويوم العيد ويومين بعد العيد “فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه” خمسة أيام أو أربعة أيام من كان عنده نفقة هذا الحج يجب أن يحج، ليس من الضروري أن يكون قادراً على الذهاب إلى المدينة، لأن المدينة ليست من شعائر الحج، هذه يمكن أن ييسرها الله له في وقت آخر إنما لا يؤخر الحج إذا كان قادراً على الذهاب إلى مكة وحدها ليس مما يجب أن يوفره الإنسان أن يكون عنده مبالغ يشتري بها هدايا لأقاربه وأصدقائه، بعض الناس يقول: اذهب وارجع بدون شراء هدايا، هذا يا أخي ليس فريضة “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها” ، “لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً”.

عوائق
من قدر على الحج من الناحية المالية ولم يكن عنده عائق من الناحية البدنية وجب عليه أن يحج فإن كان عنده عائق دائم يمكن أن يحج عنه بعض أبناءه أو إخوانه أو أقاربه، إذا كان ميؤوساً من شفائه. وفي الحج، هناك أشياء يستطيع أن يفعلها الإنسان بواسطة وأشياء يمكن أن يفعلها بالإنابة يستطيع أن يطوف بالبيت محمولاً أو راكباً الكرسي المتحرك وهناك من يسوقه أو يدفعه، يستطيع أن يسعى بين الصفا والمروة راكباً العربة، والوقوف بعرفة لا يحتاج إلى شيء هو باق في خيمته ورمي الجمار يستطيع أن ينيب فيه من كان لا يقدر على المزاحمة في رمي الجمار وعلى الذهاب إليه فلينب، ولكن من كان قادراً على أن يرمي ولو بالمزاحمة ولو كانت امرأة، تزاحم وترمي وتذكر الله عز وجل “واذكروا الله في أيام معدودات”..

من قدر على الحج ولم يكن هناك عائق، أحياناً توجد عوائق، في بعض البلاد تحدد أعداد الحجاج نظراً للزحام الهائل الذي يحدث في هذه السنوات من حجاج بيت الله الحرام اضطر المسلمون وتفاهمت المملكة العربية السعودية مع سائر المسلمين أن يكون هناك عدد محدد لكل بلد، لا يتجاوزه حتى لا يتضاعف الحجاج في الموسم ويقع من الأحداث ما لا يحبه المسلمون، مثل ما رأينا في السنوات الماضية، ممن ماتوا في رمي الجمرات ولهذا تعمل قرعة لمن يريد الذهاب إلى الحج، فمن لم يخرج حظه في القرعة كان هذا عذراً له، ينتظر إلى سنة قادمة وسنة قادمة حتى يخرج سهمه في القرعة، وهناك عوائق للإنسان ليست بيده هي من الأعذار التي يُسقِط الله بها فورية هذه الفريضة عن الإنسان المسلم.

العبادة الظاهرة تصحبها عبادة باطنة
الحج عبادة بدنية مالية ظاهرة وباطنة، كل عبادة ظاهرة تصحبها عبادة باطنة هي النية والإخلاص لله تبارك وتعالى ولذلك جاء في الحديث “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، “من حج لله”لم يحج للرياء والسمعة، ليسمى الحاج، بعد أن كان اسمه أحمد مثلاً صار الآن اسمه الحاج أحمد، لا.. “من حج لله”جعل نيته خالصة لله،”فلم يرفث، ولم يفسق”كما قال تعالى “الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” ، الرفث فحش القول خصوصاً ما يتعلق بالنواحي الجنسية ونحوها، والفسوق المعاصي، والجدال المماراة مع الرفقاء ومع البائعين ومع الناس..

يريد الإسلام أن تكون هذه الحجة أو هذه الرحلة رحلة سلام رحلة تسامح، ليست رحلة شجار، ليست رحلة مُلاحَّة في الصغير والكبير حتى يستريح الناس ويتفرغوا لعبادة الله تعالى “مخلصين له الدين حنفاء” “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق” وأيضاً لم يجادل كما جاء في القرآن، اكتفى الحديث بأهم ما ذكر القرآن”رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه” ولد ولادة جديدة متطهراً من الذنوب مغسولاً من الخطايا، من أراد أن يبدأ صفحة جديدة مع الله فلينوي الحج بهذه النية فليدخل هذه العبادة بهذه الإرادة، أنه يريد أن يحيا من جديد وأن يولد من جديد..

وعلامة قبول الحج أن يكون الإنسان بعد الحج أفضل منه قبل الحج، بعض الناس للأسف يذهبون فيحجون ويعودون، ولم يتغير من حياتهم شيء، ولم يتبدل من سلوكهم شيء هو قبل الحج مثله بعد الحج، بل بعضهم والعياذ بالله يكون بعد الحج أسوأ مما كان قبل الحج، يظلم الناس يأكل الحقوق، لا يبالي بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام؟ كأنما هذا الحج أعطاه رخصة أن يستحل الحرام، وأن يأكل أموال الناس بالباطل، لا..

الحج لا يسقط حقوق العباد
لقد قال العلماء: إن الذنوب التي يسقطها الحج هي ما بين الله وبين العباد، أما الذنوب التي ما بين العباد بعضهم وبعض فهذه لا تسقط بالحج، إنما تسقط بردها إلى أصحابها “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها” إلا من عجز عن توفية الحقوق فهذا معذور تاب إلى الله ولكنه ظلم آلافاً من العباد طوال حياته وأخذ منهم أموالهم إما بالتجارة المحرَّمة أو بالغش في التجارة أو بالاحتكار أو بغير ذلك وأراد أن يتوب ولم يعد عنده مال إذا كان هكذا فهذا أصبح أمراً بينه وبين الله فالحج يسقطه ولكن إذا كان شخص يملك الملايين وهو يريد أن يطهِّر نفسه بالحج وعنده حقوق العباد في عنقه نقول له: لو حججت مئة مرة واعتمرت ألف عمرة فإن الله لا يغفر لك حتى ترد الحقوق إلى أهلها، أرأيتم ما هو أعظم من الحج، الشهادة في سبيل الله، من قُتل في المعركة في سبيل الله وكانت عليه ديون للعباد فإن الشهادة في سبيل الله لا تكفِّرها..

روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَين”، وجاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أرأيت إن قُتِلت في سبيل الله تُكفَّر عني خطاياي؟ قال: “نعم” ثم ولى الرجل ومشى خطوات فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ردوه إليه قال: “ماذا قلت آنفا؟” قال: قلت أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي فقلت: نعم يا رسول الله، فقال: “إلا الدَين” تكفر عنك خطاياك إذا قتلت في سبيل الله إلا الدين “أخبرني جبريل بها الساعة” يعني جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم يصحِّح له الخطأ قال له: لا تكفَّر عنه خطاياه وذنوبه إذا قُتل في سبيل الله إلا الديون، ديون العباد، فإذا كانت الشهادة في سبيل الله لا تُسقِط حقوق العباد فلا يمكن أن يُسقِطها الحج وإن كان حجاً لم يرفث فيه ولم يفسق.

الحج المبرور
النبي عليه الصلاة والسلام يقول “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” ما هو الحج المبرور؟ الناس يدعون لبعضهم البعض: اسأل الله أن يرزقك حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً، ما هو الحج المبرور الذي جزاؤه الجنة، الحج المبرور لابد فيه من شروط معينة، أول هذه الشروط النية الخالصة لله، وثاني هذه الشروط أن يكون من مال حلال، أن تكون نفقته للحج من مال حلال، ولذلك يحرص المسلمون الذين يحجون يتحرون أن يكون المال الذي يحجون به حلالاً زلالاً ليس فيه شائبة، لم يدخل البنوك الربوية، ليس فيه رائحة من روائح أكل أموال الناس بالباطل..

يكون من جهة يعرف أنها حلال تماماً، من عمله الذي أدى فيه واجبه، حتى لو أن إنساناً يأخذ راتباً ولا يعمل بما يقابل هذا الراتب، هناك أناس يأخذون من الدولة رواتب وهم لا يعملون، لا يذهب إلى عمله، يذهب يوقع وينصرف، هذا ليس حلالاً، لم يعرق جبينه ولم تكد يمينه ولم يجهد بدنه في مقابل هذا الراتب وهذا المعاش، لابد للإنسان الذي يريد أن يكون حجه مبروراً، أن يكون ماله حلالاً، ويتحرى هذا..

وقد روي في بعض الأحاديث وإن لم تصح وإنما معناها صحيح أن الإنسان إذا حج من مال حلال وركب راحلته أو ركب سيارته أو ركب طائرته ولبى بالإحرام قال: “لبيك اللهم لبيك”، إذا كان ماله حلالاً قيل له: “لبيك وسعديك”، وإذا لم يكن ماله حلالاً وقال له: “لبيك اللهم لبيك” قيل له “لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك ارجع مأزوراً غير مأجور” ضيَّعت ثواب حجك بهذا المال الحرام، والشاعر يقول إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجَّت الإبل، أنت لم تحج إنما الناقة التي ركبتها أو السيارة التي ركبتها هي التي حجَّت، أما أنت لم تحج حقيقة مادام مالك من حرام..

كل هذا إشارة إلى الإنسان المسلم أن يحيا حياة طيبة وأن يقنع بالرزق الحلال، بعض الناس تتطلع أعينهم دائماً إلى الحرام ليس بالقليل يقنع ولا من الكثير يشبع هو كجهنم كلما دخل فيها فوج وقيل لها: هل امتلأت؟ تقول “هل من مزيد” إذا كان صاحب ألف يريد أن يكون صاحب مليون، وإذا كان صاحب مليون يريد أن يكون صاحب عشرة وإذا كان صاحب عشرة يريد أن يكون صاحب مئة.. فصاحب العشر يبغي عشره مئة وصاحب الألف يبغي الألف مليونا، هكذا الإنسان دائماً طمَّاع لا يشبع، إلا الإنسان المؤمن مهمته أن يتحرى الحلال، “اتقي المحارم ـ أي المحرمات ـ تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”.

حقوق العباد مبينة على المشاحة
مما ذكره العلماء في أمر الحج أن من كان عليه دَين لا يجوز له أن يحج حتى يستأذن الدائن، لأن الديون من حقوق العباد والحج من حقوق الله، وحقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبينة على المشاحة، المشاحَّة كل واحد يقول حقي حقي نفسي نفسي، الأنانية من خواص البشر، ولذلك لابد أن تؤدي حق البشر، تؤدي الدين إذا كان قد وجب ولا تذهب إلى الحج وعليك دين إلا إذا كان ديناً مقسَّطاً مثل الديون التي للإنسان على الدولة مثل القرض الذي تعطيه الدولة لعشرين سنة أو لثلاثين سنة في بناء البيوت فهذه محدودة..

إنما الديون التي للأفراد على الأفراد فلا يجوز للإنسان أن يذهب ليحج حتى يستأذن الدائن، يقول والله أنا أريد أن أحج وعلي لك 10 آلاف أو 20 ألفاً أو أكثر أو أقل هل تسمح لي، فإذا سمح له فلا حرج ولكن هنا شرط أيضاً الشخص قد يسمح له وهو لا يعرف ظروفه ولكن هو يعرف ظروف نفسه إن كان يعلم أن هذا الحج سيعطله عن الوفاء بالدين لأن العشرة آلاف التي سيدفعها وإذا كان هو مع زوجته فتصبح عشرين ألفاً، إذا كان يعرف أن هذا سيعجزه عن الوفاء بالدين، فلا يكفي أن يسمح له الدائن، لابد أن يكون هو واثقاً من نفسه بالقدرة على أداء هذا الدين، عنده مداخيل معينة ينتظرها عنده أشياء يتوقعها ويعرف أنه إن شاء الله سيسدد الدين، إلى هذا أيها الأخوة شدد الإسلام في حقوق العباد.

شعيرة قديمة جديدة
إن الحج فريضة عظيمة وشعيرة لا نظير لها، هي شعيرة قديمة جديدة من عهد إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى “وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” هذا الحج ليس لله تعالى حاجة فيه الله غني عن العباد كما قال “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين”..

الله غني عن عباده، وإذا فرض عليهم فرائض فإنما ذلك لمصلحتهم ليرقى بهم لتزكو أنفسهم ليرتقوا في معارج الرقي الروحي والنفسي والأخلاقي إلى ربهم لتتحقق لهم منافع اجتماعية بهذه العبادات، فالله سبحانه وتعالى إذا فرض علينا عبادة من العبادات فليس ذلك لمنفعته، هو لا تنفعه طاعة المطيع كما لا تضره معصية العاصي “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد” فرض الله علينا الصلاة كما قال الله تعالى لتنهى عن الفحشاء والمنكر، وفرض الله علينا الزكاة ليطهرنا ويزكينا بها، وفرض علينا الصيام لعلنا نتقي الله “لعلكم تتقون”..

وفرض علينا الحج كما جاء في الآيات التي ذكرناها “ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” هناك منفعة مؤكدة للإنسان المسلم وللمجتمع المسلم وللأمة المسلمة، الإنسان المسالم يعود بعد الحج أزكى نفساً وأطهر قلباً وأكثر تصميماً على فعل الخير والبعد عن الشر، هذا ما نشهده في عموم الناس، أن الإنسان بعد الحج أفضل منه قبل الحج، الحج يعطيه شحنة روحية نفسية عاطفية يزوِّده بهذه الشحنة ليدخل بها معركة الحياة، فهذا من أثر هذه العبادة العظيمة..

عبادة في أرض بارك الله فيها للعالمين أرض تهب عليها الذكريات الإبراهيمية من بعيد والذكريات المحمدية من قريب يذكر المسلم إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت ويدعوان الله “ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم”.

من المحلية إلى العالمية
المسلم بإيحاء هذه الجماعة وبقوة الجماعة التي يراها وبهذا الدعاء الذي يشق عنان السماء “لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك” بهذه الأعين التي تذرف العبرات عند الملتزم وفي الطواف بالبيت الحرام هؤلاء الخاشعون المخلصون يراهم الإنسان العادي فيتأثر قلبه وينفعل وجدانه وتقوى إرادته، إنسان ليس حجراً صلداً إنما هو مشاعر وعواطف وأحاسيس..

هذه الرحلة العظيمة تعلِّم المسلم ذلك وتعيده بهذه الشحنة الروحية العاطفية، من ناحية أخرى الحج يوسع أفق المسلم الثقافي، الإنسان الذي يعيش في قريته أو في بلده وبين أهله وأقاربه لا يعرف شيئاً عن العالم من حوله، الإسلام ينقله من هذه المحلية إلى العالمية، فيرى الناس من كل الألوان وكل الأجناس وكل الأقاليم وكل الطبقات..

يرى هذا وقد قدم من الصين وهذا وقد قدم من جنوب إفريقيا، وهذا من استراليا وهذا من البرازيل وهذا من آسيا وهذا من شرق إفريقيا وهذا من غربها وهذا من جنوبها وهذا من شمالها وهذا من وسطها، المسلم ينتقل من أفق إلى أفق بهذه العبادة ويعلم أن دينه ليس ديناً محلياً هو دين عالمي، وأن أخوته المسلمين في كل العالم، هذه نقلة نوعية مهمة للإنسان المسلم.

تدريب على القيم الرفيعة
ثم الحج بعد ذلك تعليم لمبادئ الإسلام، تعمل عملي تدريب للمسلم على المبادئ العليا والقيم الرفيعة التي جاء بها الإسلام خصوصاً القيم الاجتماعية.. المساواة، الإخاء، الوحدة، السلام، هذه تتجسد في الحج تجسداً كاملاً، مساواة لا شك فيها، المسجد يحقق المساواة ولكن يبقى الناس متفاوتين في أزيائهم المختلفة، هذا يلبس غترة وهذا يلبس عقالاً وهذا يكشف رأسه وهذا يلبس بدلة افرنجية، وواحد يلبس ثياب غالية الثمن وآخر يلبس ثياب بدراهم معدودة فيظل هناك قدر من التفاوت، أراد الله سبحانه وتعالى في الحج أن يزيل هذا التفاوت يلبس ملابس لا تدخلها الصنعة..

هناك بعض الفلاسفة قالوا: إن الإنسان يحتاج في بعض الأوقات أن يعود إلى لقاء الطبيعة وإلى ظهر الطبيعة نادى بذلك روسو وغيره من الفلاسفة الغربيين ولم يستطيعوا أن يحققوا ذلك، الإسلام حقق ذلك بفريضة الحج، عُد إلى الطبيعة إلبس ثياباً في غاية التواضع كلها ثياب بيضاء وثياب ليس فيها صنعة، لم تدخل فيها يد الخياط، الذي يفرق بين الناس بتزويقاته وزخرفاته..

عُد إلى الفطرة إلى الطبيعة، فهذا يعلِّم الإنسان المساواة بغيره، يتحقق في هذا المساواة بين الناس، أنت في عرفة أو في الطواف حول البيت أو في السعي بين الصفا والمروة لا تفرق الأمير من الغفير ولا الوزير من الحقير، كلهم سواسية، تعليم المساواة، الوحدة، وحدة المسلمين أن المسلمين أمة واحدة، المسلم يسمع ذلك من الخطباء ومن الوُعَّاظ في الحج، يرى وحدة هذه الأمة أمة ربها واحد ونبيها واحد وكتابها واحد وقبلتها واحدة، وشعائرها واحدة ما الذي يمنعها أن تتوحد، إنه يرى ذلك مجسَّداً في فريضة الحج.

رحلة سلام
وفريضة الحج رحلة سلام المسلم في هذه الرحلة هي رحلة سلام إلى أرض السلام في زمن السلام، رحلة سلام بالإحرام، امتنع المسلم عن أي شيء فيه إيذاء لغيره حتى الجدال، وحتى الصيد لا يصيد لا لنفسه ولا لغيره “وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً” “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ” ، حتى قطع الحشائش في تلك الأرض، لا يجوز أنه سلم لكل ما حوله ومن حوله، حتى لا يحلق شعره ولا يقلِّم أظفاره، هذه الآلات لا يستخدمها، الناس في عصرنا ينادون بالسلام..

والإسلام يعلِّم المسلم هذا السلام، في أرض السلام، مكان من دخله كان آمنا حتى قال عمر: “لو رأيت فيه قاتل أبي ما مسَّته يدي” أمن وسلام فهذه هي الفريضة العظيمة هي هذا المؤتمر العظيم الذي دعا إليه الله تبارك وتعالى ولبَّاه الناس من كل صوب ومن كل فجٍّ عميق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “الحُجَّاج والعُمَّار وفد الله دعاهم فأجابوا وسألوه فأعطاهم”هم وفود الله عز وجل إلى بيت الله إلى أرض الله، هذه هي الفريضة العظيمة التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يكتبها لنا، وأن يكتب لنا حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً وتجارة لن تبور.

فضل الليالي العشر الأولى من ذي الحجة
قبل أن أغادر مقامي هذا اليوم تبدأ عشر ذي الحجة الأيام العشر أو الليالي العشر التي أقسم الله بها كما يقول بعض المفسرين “وليال عشر” هذه الليالي العشر من أفضل ليالي العام، أيام عشر ذي الحجة وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عباس “ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى فيهن من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ ” قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال “ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يخرج الرجل بنفسه وماله فلا يرجع من ذلك بشيء” يعني يُقتل في سبيل الله ويُعقر جواده، يعني ضحى بالنفس والمال معاً..

هذا فضل هذه الأيام، ولذلك جاء في الحديث “فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتكبير” أكثروا من ذكر الله تعالى ومن تلاوة القرآن ومن فعل الخيرات، ومن الصدقات، فالثواب في هذه الأيام مضاعف وأؤكد هذه الأيام هو يوم عرفة، هو أفضل أيام العام على الإطلاق، كما أن ليلة القدر أفضل ليالي العام على الإطلاق، أفضل الأيام يوم عرفة والمطلوب فيه أن نصوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: “صيام عرفة حق على الله تعالى أن يكفِّر فيه ذنوب سنتين سنة قبله وسنة بعده”..

والصيام مشروع في هذه الأيام التسع كلها ولكن أؤكدها وأقواها وأعظمها مثوبة هو يوم عرفة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل يومنا خيراً من أمسنا وغدنا خيراً من يومنا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.. اللهم آمين.

اترك تعليقًا