رمضان فرصة عظيمة لأحداث التغيير المنشود (2 ) بقلم جمال الدين عماري

كان فيمن سبقنا من الأمم الغابرة، الرَّسول يُبعثُ إلى قومه، في يده اليُمنى الرِّسالة، وفي يده اليُسرى المعجزة. سيِّدنا موسى عليه السَّلام رسالته التَّوراة، ومعجزته في عصاه. سيِّدنا عيسى عليه السَّلام رسالته الإنجيل، ومعجزته أنَّه يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله. بخلاف خاتم الأنبياء و المرسلين سيِّدنا محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، فقد كانت معجزته متضمَّنة في رسالته. رسالته القرآن العظيم، ومعجزته القرآن العظيم، معجزته رسالته عينُها. أعظم بها من رسالة، وأعظم بها من معجزة خالدة إلى يوم الدِّين! إنها الرِّسالة الخاتمة الخالدة، آخر كلمات الله الهادية إلى البشر.
الأمر الثَّاني أنَّ طبيعة معجزات الأنبياء والرُّسل قبل النَّبي الخاتم كانت حِسِّيَّة، بينما معجزة نبيِّنا عليه الصلاة والسلام معنوية ذات دلالة عميقة. خلاصتها إحداث التَّغيير في النَّفس البشريَّة، والانتقال بها من حال إلى أحسن حال. من الإنسان الوحش أو الموحش إلى الإنسان الإنساني، إلى الأفق الإنساني الرَّحب، إلى حيث القيم المُشبعة برصيد النُّبوَّة. قيم تُعطي للإنسان قيمة بشرية تجعله قادرًا على أن يُحقِّق وُجوده، فيكون لحياته بُعد ومعنى وأثر، وليس مجرَّد رقم أصم في معادلة الحياة، كما هو الحال في الحضارات المادية قديمًا وحديثًا. رسالة لها قدرة هائلة على صناعة الإنسان والارتقاء به نحو الكمالات. ” إنَّ إبراهيم كان أمَّةً..”(آ.120 النحل) قال تعالى مادحًا صفيُّه وخليله صلَّى الله عليه وسلم:” وإنَّك لعلى خُلُق عظيم.”(آ.4 القم) قال عمر بن الخطاب:” لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم.”
فرق كبير كما بين السَّماء والأرض، بين الصَّحابة قبل إسلامهم وبعد إسلامهم. عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظلَّ أكثر من نصف حياته يسجد للأصنام، يُقدِّم فروض عبادته لهُبل، ثم انظر ماذا أصبح؟!
عمر بن الجموح رضي الله عنه من كان يسمع به قبل إسلامه، لا أحد يعرفه في الجزيرة العربية، عقليته كانت ساذجة، بسيطة جدًّا، ومحدودة جدًّا، لدرجة أنَّه ظلَّ سنين طويلة يسجد لصنم من خشب صنعه بيده، كان يسجد له قرابة ستين سنة، كان من الممكن أن يموت في أي لحظة، ويُغلق السِّتار على حياة تافهة لا تساوي شيئا في ميزان النَّاس، ولا في ميزان التَّاريخ، ولا في ميزان الله عزَّ وجل، لكنَّ العناية الرَّبانيَّة أرادت له الهداية فآمن بعد السِّتين، وحدث له انقلاب هائل في حياته، حيث استقامت فطرته واستنار عقله المظلم ، وأصبح غير الذي كان. استشهد في غزوة أحد، لم يمنعه العرج من أن يقوم بشيء عجز عن القيام به كثير من الأصحاء.

يتساءل المرء ما سرُّ هذه النُّقلة العجيبة في حياة الصحابة رضي الله عنهم، ماذا كانوا وكيف أصبحوا؟ من عبَّاد الحجر إلى قادة البشر، من رعاة الغنم إلى قادة الأمم. من أمَّة أمية لا يؤبه بها إلى أمَّة تسود البلاد والعباد، وتبني الحضارة، تمَّ ذلك ليس في قرون، ولكن في سنوات معدودات. فما السِّر، وما الذي غيَّرهم؟ الدَّارس لحياة السَّلف الصَّالح عمومًا، ولحياة الصَّحابة عليهم الرِّضوان بالخصوص يُدرك ويعرف السِّر. إنَّه القرآن الكريم معجزة محمد صلَّى الله عليه وسلم الخالدة، كتاب عجيب لا تنتهي عجائبه، غريب لا تنتهي غرائبه، كتاب مُعجز، وإعجازه متجدِّد متعدِّد، لكن معجزته الكبرى ومعجزة الإسلام العُظمى هي صناعة الإنسان، الإنسان المؤمن، الإنسان التَّقي، الإنسان الصَّالح المُصلح.
إنَّه شتَّان بين الرَّجل قبل أن يسلم وبعد إسلامه، وكأنَّك جئتَ برجل جديد تمامًا. الإنسان قبل الالتزام بهذا الدين وكأنَّه ميِّت موتًا حقيقيًّا، وإن كان ظاهرًا يقوم ويقعد، ويمشي ويتحرك، ويأكل ويشرب، لكنَّه ميِّت، ميِّت القلب، ميِّت الإحساس والمشاعر، ميِّت العقل والتَّفكير، ميِّت الغاية والهدف، جماد، كمٌّ وكتلة ليس إلَّا، ليس له أي قيمة. ليس الميِّت من مات فاستراح *** إنَّما الميِّت ميِّت الأحياء.
وفجأة وبعد الالتزام بالإسلام تدبُّ فيه الحياة وكأنه يولد من جديد، يُبعث من جديد، يصبح إنسانًا بما تحمله الكلمة من معنى. قال تعالى:”أومن كان ميِّتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النَّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها..”(آ.122 الأنعام) بعد الالتزام تختفي السِّلبية، وتختفي الأنانيًّة، وتختفي الغِلظة، تختفي حقارة الأهداف وسفالة الاهتمامات، تختفي كل هذه المظاهر المنكرة، وتظهر أخلاق أخرى فاضلة، ويصطبغ المرء بسماء الصالحين، وتظهر عليه أخلاق المتَّقين، وسبحان مغيِّر الأحوال.
إنَّ قضيَّة التَّغْيِير لعلَّها مِن أعظم المقاصد التي بُعث من أجلها رسولُنا الأكرم صلواتُ الله وسلامه عليه، وأُنزل من أجلها القرْآن الكريم. و الإنسان المسلم كائنٌ حيٌّ، يحسُّ ويتحرَّك، ينمو ويتطوَّر، ويقبل التَّغيير نحو الأحسن، بل يرغب فيه ويميل إليه بفطرته، والتَّغيير الحقيقي يبدأ من الدَّاخل.
ترويض الأبدان صعب، وأهل الرياضة وأهل الاختصاص أدرى بذلك، لكنَّه ممكن، تغيير الذِّهنية أيضًا صعب جدًّا، وأهل الفكر والثقافة والتَّربية أدرى بذلك، لكنَّه ممكن، أمَّا تغيير النَّفس فأصعب، لكن ليس بمستحيل بل من الممكن جدًّا أيضًا، فقط إذا صدقت النِّيات وعلت الهمم وقويت الإرادات. لا تقل ذهبت أربابه كل من سار على الدَّرب وصل. ما هو ممكن لغيرك ممكن لك. ومثال الصحابة ماثل أمام أعيننا.
قضية التغيير ذات دلالة عميقة، لذا نطرح مثل هذه الأسئلة المحورية: لماذا لم نتغير؟ أو متى نتغير؟
إذا أردنا أن نتغيَّر نتغيَّر، لابدَّ من توفر الرَّغبة والإرادة ثمَّ الفعل، وطلب العون والمدد من الله، نبدأ بتعميق وترسيخ معاني العقيدة والتَّوحيد، نثني بالصَّلاة وهي من أعظم وسائل التَّغيير، الزكاة، الحج، الصًّوم، صوم رمضان من أعظم المحاضن التَّربوية لإحداث التَّغيير المنشود. قال تعالى:” يا أيُّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتَّقون.”(آ.183 البقرة)
يقول الدكتور والمربي الكبير الشيخ مجدي الهلالي: الناس في رمضان ثلاثة أنواع:
1) من الناس من يسثقل قدوم الشَّهر، ويعتبره عبئًا ثقيلًا، يتمنَّى زواله، فهو لا يرى فيه إلَّا الحرمان. فانَّى لمثل هذا أن يتغيَّر أو يتحسَّن حاله! يخرج رمضان ولم يستفد، أو لم يحقق إلَّا النَّزر اليسير من الكمالات والفضائل .
2) ومنهم من يستشعر قيمة الشهر، فيشمر على سواعد الجد والاجتهاد في الإتيان بأكبر قدر من الطاعات القربات، فيكثر من تلاة القرآن وعدد الختمات، دون الاهتمام بحضور القلب فيها. يتعامل مع كل وسيلة على أنَّها هدف في حدِّ ذاته، ولم ينظر إلى الهدف الأسمى الذي يرنو الصيام إلى تحقيقه، ومما لا شك فيه أنَّ هؤلاء يشعرون بأثر طيِّبٍ في قلوبهم، سرعان ما ينتهي ويزول بعد انقضاء رمضان.
3) هناك صنف من الناس اعتبر رمضان فرصة نادرة لإحياء القلب و إيقاضه من رقدته، وإشعال فتيل التقوى وجذوة الإيمان فيه. نظر إلى مستهدف الصيام فوجده في قول الله عز وجل:” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.” فتقوى الله عز وجل هي مقصود العبادات، وعلى قدرها في القلب يكون قرب العبد أو بعده من الله عز وجل.” إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنَّ الله عليم خبير.”
لقد علم هذا الصنف من الناس أنَّ رمضان ما جاء إلَّا ليتقرَّب النَّاس من ربهم، ويزيد من صِلاتهم به، فهو يزوِّد القلوب بخير زاد.”وتزودوا فإنَّ خير الزَّاد التَّقوى واتَّقوني يا أولي الألباب.” فشمر على سواعد الجد وأحسن استخدام الوسائل التي وضعها الإسلام في هذا الشهر المبارك، وجمع بين عمل القلب وعمل الجوارح. ممَّا لا شك في أنَّ هذا الصنف هو الفائز الأكبر من رمضان، فلقد أصلح من خلاله قلبه، وانطلق به في طريق السَّائرين إلى الله تعالى.”(ماذا يريد منا رمضان/ مجدي الهلالي)
اللهم اجعلنا من هذا الصنف، اللهم أيقضنا من رقدات الغفلة، ووفقنا للتَّزوُّد قبل النُّقلة، وارزقنا اغتنام الزَّمان وقت المهلة، اللهم هبنا ما وهبته لأوليائك، اللهم ارزقنا همَّةً متَّصلة بك، ويقينًا صادقًا عن حبِّك.
– جمال الدين عماري.5 رمضان 1438 هجري /31 ماي 2017م

اترك تعليقًا