رمضان محطة للتَّزوُّد..” فاستبقوا الخيرات..”

من توفيق الله عزَّ وجل للعبد أن يُلهمه مرا شدَه، ويُيسِّر له سُبل الخير والعمل الصَّالح. فيمدَّه بعونه، ويُبصِّره بعظائم الأمور والأعمال وأشرفها، ويَصرفه بلطفه عن سفا سفها وصغائرها. “ومن يؤمن بالله يهدِ قلبَه..”(آ.11 التغابن) يهدي قلبه للتَّسليم بأمره، والرِّضا بقضائه، يهدِهِ لأحسن الأقوال والأفعال والأحوال، في علمه وفي عمله. وهذا من أفضل الجزاء الذي يُعطيه الله لأهل الإيمان. “إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربُّهم بإيمانهم..” (آ.9 يونس) ومن وافر نِعم الله عزَّ وجل على الإنسان أيضًا بعد نعمة الإيمان والإسلام والقرآن، وسنَّة وسيرة خير الأنام، نعمة الوقت التي لا يقدِّرها حقَّ قدرها، ولا يعرف قيمتها إلا مؤمن فقه دينه، استهدى بكتاب ربِّه، و استنَّي بسنَّة نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام، وبهذا يكون قد أدرك السِّرَّ والغاية من وجوده، ومن وجود الكون والحياة من حوله.
ولعظم قيمة الوقت وعلو شأنه أقسم المولى تبارك وتعالى به في آيات كثيرة من الذِّكر الحكيم، ونبَّهنا إلى ضرورة الاستفادة منه، ويكفي للدَّلالة قوله تعالى: “والعصر، إنَّ الإنسان لفي خسر، إلَّا الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصَّبر.”(سورة العصر) لا حظْ الله عزَّ وجل العلي العظيم لا يُقسم إلَّا بأمر عظيم من أجل أمر عظيم. وقوله صلَّى الله عليه وسلم:”نعمتان مغبون فيهما كثير من النَّاس، الصِّحة والفراغ. ما قيمة الشُّهور والسِّنين، ما قيمة العمر، بل ما قيمة الحياة كلِّها إذا لم تُعمَّر وتُعطَّر بالطاعة والعبادة والعمل الصَّالح، وطلب العلم والدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ! إنَّها فرصة العمر وأمانة الله في أعناقنا، ألا تستحق أن نصونها ونحافظ عليها حتى لا ننساق وراء بهارج الدُّنيا وبريقها الكاذب ! نصحنا المولى عزَّ وجل وهو الرَّحيم بنا، أن نُعلق قلوبَنا وأن نرتبط بما هو أخْلد وأبْقى. قال تعالى: “.. وللآخرة خير لك من الأولى..”(آ.4 الضحى) ” إنَّه لا ينفع الإنسان إلَّا ما قدَّم من عمل صالح. “.. وأنْ ليس للإنسان إلَّا ما سعى، وأنَّ سعيَه سوف يُرى..”(آ.39 النجم)
قال بعضهم: “من علامات رضا الله تعالى على العبد، إذا طال عمره زاد عمله، ومن علامات سخط الله على عبده إذا طال عُمره، نقُص عملُه.” فطوبا لمن طال عمره وحسن عمله وزاد، ونصح نفسه فتزوَّد من قبل أن تلفظه الفانية إلى الباقية.” يا أيُّها الذين آمنوا اتَّقوا الله، ولتنظر نفس ما قدَّمت لغدٍ، واتَّقوا الله، إنَّ الله خبير بما تعملون” (آ.18 الحشر) اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستُردُّون إلى عالم الغيب والشَّهادة، فينبِّئكم بما كنتم تعملون” (آ.105 التوبة) فليتَّق العبدُ ربَّه، ولا يحقرنَّ من المعروف شيئا.”فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرًا يرهُ، ومن يعمل مثقال ذرَّة شرًّا يره”(آ.7،8 الزلزلة)
إنَّه من كمال عقل المرء، وتمام دينه، ونفاذ بصيرته وصلاح عمله، حساسيته المفرطة لعامل الزَّمن، وحسن تنظيمه لشؤونه وإدارته لوقته. وقد يتحسَّر ويتألَّم لمجرَّد اللَّحظة الواحدة تمر دون أن يستثمرها ويستغلها في طاعة، كإقامة فريضة، أو تحصيل علم، أو إقامة نُسك، أو إتقان عمل، أو بذل جهدٍ في نفع عام، وكلُّها قربات وطاعات لله عزَّ وجل إذا خَلصت النِّيات. خاصة ونحن نعيش أجواء هذا الشَّهر الفضيل، شهر الصِّيام، شهر القرآن، شهر الرَّحمة والمغفرة والعتق من النَّار، شهر التَّوبة والاستغفار والاصطلاح مع الله، شهر الفرار إلى الله، للتَّزوُّد “.. وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزوَّدوا فإنَّ خير الزَّاد التَّقوى، واتَّقوني يا أولي الألباب.”(آ.197 البقرة)
الكيِّس من يدرك مثل هذه المعاني فيسعى جاهدًا للرَّفع من منسوب إيمانه، والتَّحقق بمقصد التَّقوى، بالمجاهدة، وأخذ النَّفس بالعزيمة، والإقبال على الله بكثرة الذِّكر والدُّعاء، والمبادرة إلى فعل الخيرات وعمل الصَّالحات، لا يتردَّد لحظة، فورقة الامتحان تُسحب من الطَّالب بمجرد انتهاء الوقت المحدَّد، وساعة الرَّحيل والمغادرة إذا دقَّت لا تنتظر، معلنة انتهاء سحابة العمر، فيندم المرء و لات حين مندم.
هنالك أمكنة وهنالك أزمنة الله تبارك وتعالى يضاعف فيها من نفحاته، وحريٌّ بكلِّ مؤمن أن يتعرَّض لنفحات الله عز وجل في هذه الأيَّام، وأن يترصَّد لها. إنَّ لربِّكم في أيَّام دهركم لنفحات، ألا فتعرَّضوا لها. كيف لا وهو الشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خيرٌ من ألف شهرٍ، الفريضة فيه كسبعين فريضة، والنَّافلة فيه كالفريضة، الشَّياطين فيه مُصفَّدة، أبواب الجنَّة مُشرعة مفتوحة، فأعظم بها من خيرات، وفُرصٍ عظيمة، ودقائق غالية. ” ومن يُعظِّم شعائر الله فإنَّها من تقوى القلوب.”(آ.32 الحج) ألا إنَّ سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنَّة. فالبدار البدار، قبل فوات الأوان.
1) أن نحرص على أن نصوم الصَّوم الحقيقي، بجوارحنا وبقلوبنا، لا مجرَّد الإمساك عن المفطرات الحسِّية فحسب، وأن لا ننسى نصائح رسولنا صلَّى الله عليه وسلم في هذا الباب، وأنْ نتمثَّلها عمليًّا.” إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإنْ سابه أحدٌ أو قاتله فليقل إنِّي صائم.” (متفق عليه) وقوله صلى الله عليه وسلم:” ربَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش.” رواه أحمد. وقول عمر رضي الله عنه:” ليس الصيام من الطعام والشراب، لكنَّه من الكذب والباطل واللَّغو.” وقال بعضهم:” أهون الصِّيام ترك الشَّراب والطَّعام.” وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت.
2) الإقبال على الله في الصلوات المكتوبة، محافظةً وخشوعًا، والاجتهاد في النوافل القبلية و البعدية، فإنَّها مدعاة لحبِّ تعالى كما ثبت في الأثر. الصَّلاة عمود الدِّين، وأحبُّ الأعمال إلى الله، وقرَّة عين رسول الله، ومعراج المؤمن، وأوَّل ما يُنظر فيه غدًا يوم القيامة، فلا راحة ولا اطمئنان إلَّا بها، ولا نجاة ولا سعادة إلَّا بإقامتها، إنَّه لا يحافظ عليها إلَّا مؤمن صادق الإيمان.
3) الفرار إلى الله، والإقبال عليه بالإكثار من تلاوة كتابه العزيز، وتدبر آيات الذِّكر الحكيم، فإنّه غذاء للقلوب، وهُدًى ونور، وشفاء ورحمة.” وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين..”(آ.82 الإسراء) “كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدَّبَّروا آياته وليتذكَّر أولو الألباب.”(آ.29ص) التَّعاطي معه تلاوة وفهمًا وتدبُّرًا وتأثُّرًا، وعملًا بأحكامه، ائتمارًا بأوامره و انتهاءً عند نواهيه. حتَّى ننتفع إن شاء الله بتلاوته، ونهتدي بهديه. القرآن غيث القلوب ونور الأبصار والبصائر، وسرُّ النَّجاح والفلاح في الدُّنيا والآخرة. ” إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجرًا كبيرًا”(آ.9 الإسراء) وته فلنُحسنْ تلاوته وتدبُّر آياته، وتلقِّي رسائلَه.
4) القيام من خلال صلاة التَّراويح والتَّهجد، و قرآن الفجر، والاستغفار بالأسحار. أيَّام الشَّهر معدودة، ونحن أنفاس محدودة، والكيِّس الفطن الموفَّق من يشمِّر على سواعد الجد، ويكون في حالة استنفار قسوة، وتأهُّب لاغتنام اللَّحظات. ولأنَّ للإنسان مشاغله ونشاطاته الكثيرة التي تُشغله وتستغرق جُهده في النَّهار، فليتفرَّغ لربِّه في الَّليل، يقوم له بالصَّلاة والذِّكر.” واذكر اسم ربك وتبتَّل إليه تبتيلًا.”(آ.8 المزمل)

يقول السيد قطب رحمه الله تعالى:” إنَّ قيام الليل والنَّاس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية و سفسافها؛ والاتِّصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنَّما هو يتنزَّل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة التَّرتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي اللَّيل السَّاجي.. إنَّ هذا كلَّه هو الزَّاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدَّعوة في كلِّ جيل! وينير القلب في الطَّريق الشَّاق الطَّويل، و يعصمه من وسوسة الشَّيطان، ومن التِّيه في الظُّلمات الحافَّة بهذا الطَّريق المنير.(من تفسير سورة المزمل/في ظلال القرآن)
5) الدعاء، وما أدراك ما الدُّعاء، سرُّ المؤمن ومعراجه إلى السَّماء. قال تعالى:” وإذ سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعانِي، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلَّهم يرشدون.”(آ.186 البقرة) الدُّعاء مخُّ العبادة، وحبل الصِّلة والوصل، وسفينة النَّجاة، لذا ينبغي الإكثار منه والإلحاح فيه فإنَّ الله يحبُّ العبد الملحاح. عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:” أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد، فأكثروا من الدُّعاء.” (رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنِّسائي) قال صلَّى الله عليه وسلم:” أعجز النَّاس من عجز عن الدُّعاء، وأبخل النَّاس، من بخل بالسَّلام.”(صحيح الترغيب) وكان سيدنا عمر يقول:” إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل همَّ الدُّعاء.” وسُئل الإمام أحمد رحمه الله كم بيننا وبين عرش الرَّحمان فقال:”دعوة صادقة.”
6) الإنفاق، وخدمة الخلْق قدر المستطاع، ولنا في رسول الله المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الجود والكرم، فكان أجود النَّاس وأجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الرِّيح المرسلة. وقد بلغ صلوات الله عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذْ كان يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يحسب له حسابًا، ثقةً بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه الرَّزاق ذو الفضل العظيم. وقد تربَّى أصحابه على هذه الأخلاق الكريمة من البذل والعطاء فكانوا قدوة لمن جاء بعدهم. قال عطاء:” ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عبَّاس، أكثر فقهًا وأعظم جفنة، إنَّ أصحاب القرآن عنده، وأصحاب النَّحو عنده، وأصحاب الشِّعر، وأصحاب الفقه يسألونه كلَّهم، يصدرهم في واد واسع.” وبذلك ينبغي أن يتحقَّق ويتخَّق المؤمنون في كل عصر وفي كل مصر.”أولئك الذين هدى الهم فبهداهم اقتدِ..”(آ.90 الأنعام)
7) صلة الأرحام، وتعني الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشَّرِّ عنهم، وقطيعة الرَّحم تعني عدم الإحسان إلى الأقارب، والأعظم منها الإساءة إليهم. ولا خلاف أنَّ صلة الرَّحم واجبة، وقطيعتها معصية من كبائر الذُّنوب. قال تعالى إنَّ الهم يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلَّكم تذَّكَّرون.”(آ.90 النحل)
اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أيقضنا من رقدات الغفلة، ووفقنا للتَّزوُّد قبل النُّقلة، وارزقنا اغتنام الزَّمان وقت المهلة، اللهم هبنا ما وهبته لأوليائك، اللهم ارزقنا همَّةً متَّصلةً بك، ويقينًا صادقًا عن حبِّك. جمال الدين عماري.10 رمضان 1438 ه/6 جوان 2017م.

اترك تعليقًا