ها قد انقضى من شهر الصِّيام ثُلُثاه، وهو قاب قوسين أو أدنى على الرَّحيل و المغادرة ، ولأنَّه ضيف خفيف الظِّل، بهيُّ الطَّلعة، جميل المُحيَّة، حسَن العِشْرة، مرَّت أيَّامُه سريعًا كلمع البرق، أو لمح البصر. الحمد لله الذي أحيانا إلى هذا الزَّمان، الحمد لله الذي أعاننا فصمنا، ورزقنا فأفطرنا، فله الحمد والمنَّة. نسأله سبحانه أن يبلِّغنا العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل، ربيع المؤمنين، وفرحة الصَّائمين، وبهجة عباده المتَّقين. ويكفه ثناءً ومدحًا قول ربِّ العالمين:” شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هُدًى للنَّاس و بيِّنات من الهدى والفرقان..” (آ.185 البقرة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الصِّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصَّوم: أي ربِّ منعته الطَّعام والشَّهوات بالنَّهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النَّوم باللَّيل فشفعني فيه، فيشفعان.” (رواه أحمد)
ما دار في خلدي في هذه اللَّحظات، ونحن نستعد للمرَّة الثانية ونتأهَّب لاستقبال العشر الأواخر، رزقنا الله وكل المؤمنين والمؤمنات بركاتها وأرزاقها، وأفضالها ونفحاتها، ثلاثة معاني أوجيزها فيما يلي:
1) إشراقات الرِّسالة وإمدادات الوحي، و فيوضات عالم الغيب.
إذا لامست قلوب المؤمنين أمطرت وابلًا صيِّبًا، وكلمًا ِّطيِّبًا، وعملًا صالحًا مباركًا. وحاجة الفرد المسلم للتَّزوُّد من هذه المحطات لازمة، لولوج عالم الشَّهادة والتَّحرك فيه بنجاح وفلاح. “يا يحي خذ الكتاب بقوة..”(آ.12 مريم) “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين..”(آ.82 الإسراء) وفي الأثر: “.. والصَّلاة نور، والصَّدقة برهان، والصبر ضياء..”(رواه مسلم) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:” كلُّ سلامى من الناس عليه صدقة، كلُّ يوم تطلع فيه الشَّمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرَّجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطَّيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ” (متفق عليه) نحن نذكر اللهَ في كلِّ وقت وحين، ونسأله من فضله عند سماع صياح الدِّيَكة كما ثبت في الأثر، فنردِّد الدُّعاء المأثور:” اللهم إنّا نسألك من فضلك.” تناغم عجيب مع كل الكائنات في السُّجود والرُّكوع، وفي التَّمجيد والتَّسبيح لله رب العالمين، كيف لا والمخلوقات كلُّها تدندن بهذا الأمر العظيم. “تُسبِّح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلَّا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنَّه كان حليمًا غفورًا.”(آ.44 الإسراء) إنَّه لا معنى لوجود أو لحياة أيِّ مخلوق، بدون الاستمداد من رب الوُجود، وهو الرحمان الرحيم المنادي في عليائه:” وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا لعلَّهم يرشدون.”(آ.186 البقرة) أولسنا في شهر فضيل، الفريضة فيه تعادل سبعين فريضة في غيره، والنافلة فيه تعادل الفريضة، فيه العشر الأواخر وما أدراك ! وليلة القدر وما أدراك ! وإذا كان لنا في النَّهار سبحًا طويلًا، فلنتبتَّل إليه سبحانه في اللَّيل تبتيلًا. البدار البدار، فماذا يفيدنا إن طلع النَّهار !
2) مكر الأعداء.
” وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن مكرهم لتزول منه الجبال.”(آ.46 ابراهيم) “.. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.”(آ.30 الأنفال) ” إنَّهم يكيدون كيدًا، وأكيد كيدًا، فمهِّل الكافرين أمهلهم رويدًا.”(آ.15،16،17 الطارق) ونحن نتلو أو نستمع لهذه الآيات البيِّنات من الذِّكر الحكيم، نتفهَّم طبيعة الصراع الدَّائر الآن، وهو جزء من الصِّراع الأبدي الأزلي بين أهل الحق وأهل الباطل حتَّى تقوم السَّاعة. وما تمرُّ به أمَّتنا خاصَّة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، خير دليل على ذلك، حيث التَّكالب والتَّآمر قد بلغ مداه، والفتن – لعن الله من أيقضها – تُحيط بنا من كلِّ جانب، تُديرها قِوى الشَّر العالميَّة، ومن لفَّ لفَّهم من أبناء جلدتنا الذين باعوا الأرض والعِرض، وداسوا على القيم، فلم يبق عندهم آثارة من حياء يردعهم أو يزجرهم. قال تعالى:” ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتَّى يميز الخبيث من الطيب..”(آ.179 آل عمران) يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة مطولة له تحت عنوان:” لهوى النُّفوس سريرة لا تُعلم.”
والظُّلم من شِيَم النُّفوس فإن تجد *** ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يَظلمُ.
أفعالُ من تلدِ الكرامُ كريمةٌ *** وأفعالُ من تلد الأعاجمُ أعجمُ.
ولعلَّى من محاسن الفتن إن كانت لها حسنات، أنَّها كاشفة مميِّزة، تكشف عن معادن الرِّجال، وعن حقيقة الأقوام، وقديمًا قال الشاعر العربي الأصيل زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تُخفى على النَّاس تُعلم.
فها قد انجلى الغُبار وانكشف الغطاء، وعرَّت الأحداث شخصيات كثيرة كنَّا نعدُّهم من الأخيار، وهيئات وجهات طالما تغنَّت بالقضية الفلسطينية، فهاهي اليوم تناصبها العداء، بل تصنِّفها في خانة الإجرام والإرهاب، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم. رحم الله الرئيس هواري بومدين حين قال:” نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.” وهل يبقى من نخوة عند الإنسان العربي إذا ولَّى ظهره لقضية أمَّته المركزية، قضية فلسطين، قضية المسلمين، وقضية كل الأحرار في العالم !! أحسبُ كما هو عند كل مسلمٍ حرٍّ أنَّ قضية فلسطين قضيَّة عِرض وليس قضيَّة أرض، قضية عقيدة وليس مجرد قضية سياسية. فأنَّى لأيِّ عربي أن يتنصَّل منها ويتنكَّر لها! إنَّها أمانة الله في أعناقنا. كما قال الشيخ الشَّيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمة الله عليه: “أيُّها العرب، أيُّها المسلمون، إنَّ فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمَّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منَّا ونحن عصبة إنَّا إذًا لخاسرون..”
3) غزوة بدر الكبرى.. استدعاء واستحضار التَّاريخ.
لاستلهام العبَر والعظات والدُّروس. يكفي أنَّ الغزوة لم تكن مجرَّد معركة عادية بين جيشين، لقد كانت بمثابة اللَّحظة الفارقة الفاصلة بين الحق والباطل، في صراع أبديٍّ إلى قيام السَّاعة. إنَّه التَّحوُّل الكبير ليس في التَّاريخ العربي الإسلامي ولكن في التَّاريخ الإنساني. إنها معركة قلَّمت أظافر العدوان، وقضت على قوَّة الباطل وكسَّرت شوكته، وانتصرت للحق والعدل، وللقيم والمبادئ الإنسانيَّة العليا. وهو درس كبير ليس للمسلمين فقط بل للعالمين. كما قال سيد رحمة الله عليه: ” إنَّه إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه.” (تفسير الظلال) بدر قصَّة انتصار القلوب حين تتَّصل بالله، وحين تتخلَّص من ضعفها الذَّاتي، بدر رصيد تاريخي ثقافي حضاري ثرٌّ، لا ينبغي الغفلة عنه لحظة، بدر مدرسة عظمى وكتاب مفتوح، جديرٌ بالأجيال المسلمة في كل عصر ومصر أن تقرأه بتأنِّي وتأمُّلٍ وتدبُّر، لاستخلاص العِبَر والعظات والدُّروس، لتكون لهم نبراسًا يُضيء لهم الطَّريق، ويحدِّد لهم معالمها، فيسيروا على هُدًى وبصيرة من أمرهم. ولعلَّى ما يحدث في غزَّة العزَّة الآن، وفي بيت المقدس، وفي فلسطين عامَّة، وفي كثير من النِّقاط السَّاخنة في عالمنا الإسلامي، تجلِّي من تجلِّيات هذه المعاني الإيمانيَّة الرَّا ئعة، وقبس من أنوار تلك المشكاة، التي لا ولن تنطفىء بإذن الله العلي القدير.” يريدون ليُطفئوا نور الله بأفواههم، والله مُتمٌّ نوره ولو كره الكافرون.”(آ.8 الصف)
– جمال الدين عماري. 18 رمضان 1438 ه/13 جوان 2017م.
” أمَّتُنا بين مكر الأعداء.. واستدعاء دروس التَّاريخ “
