خواطر 18 “علاج الغثائية في قصة طالوت” بقلم الاستاذ السعيد نفيسي

علاج الغثائية في قصة طالوت .
يقلم الشيخ سعيد نفيسي
الآية 244 إلى 250 من سورة البقرة .
إن من عوامل التمكين الأساسية صفاء الصف من الغثائية وخاصة في مستوى القاعدة الصلبة . والعقلاء لا يفكرون في خوض المعارك المصيرية قبل أن يتأكدوا من وجود فئة تستعصي على الميوعة والذوبان من جهة وعلى الفرار والتراجع من جهة ثانية أي الحرص قبل دخول المعركة على إيجاد جيل رائد يكفي كميا ونوعيا لقيادة المعركة باسم الأمة إلى النصر، ثم إلى حماية هذا النصر من السرقة أو الانحراف .
وقد كشفت قصة طالوت وقومه الغطاء على العقبات التي يجب المرور بها لامتحان قدرة الأفراد على الثبات والوفاء ،وبالتالي الانتقال من التنظير إلى الممارسة ومن القول إلى الفعل أومن الإدعاء إلا الإثبات .
هؤلاء قوم سلط عليهم الظلم من قبل طغاة ولنا أن نتصور ظلما عبّر عنه القوم بقولهم :”وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا ” إنه لا محالة تشريد وتهميش ونهب للحقوق جميعا ، فطلبوا من نبئ لهم أن يبعث لهم ملكا للقتال في سبيل الله .
وهنا تبرز حنكة القيادة التي يختارها الله لمثل هذه المواقف ،إنه نبئ يعرف حقيقة النفس البشرية التي من خصائصها الثورة عند الشعور بالظلم وإن غُلّف ذلك بغلاف العقيدة ، ثم إن هذه النفس ما لم تتشرب روح هذه العقيدة فإنها سرعان ما تخمد ثورتها بعد ضعف الروح وقلة الزاد وضغط الخارج أو قل عند مقابلة الحقيقة ، وعند ساعة دفع الثمن الغالي لمثل هذه المكاسب ولذلك حذرهم الله من مغبة التسرع في طلب القيادة المختصة في القتال لإعلان الجهاد وقال لهم: “هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا “.
ولكن في لحظة الرخاء والنقمة على الخصم يؤكد العامة تمسكهم بالمبدأ مع سلسلة كبيرة من المبررات يسهل إذ ذاك إيرادها وتهويلها، وربما سهل التحكم في الإتباع في أيام التنشئة الأولى عند قلة العدد وصفاء المعدن وضيق دائرة الشورى ،
وأما في مرحلة الانفتاح والتنفيذ فإن الأمر قد يتجاوز القلة العارفة بخبايا الواقع والنفس البشرية ،ولذلك كان من الواجب على الرواد المؤسسين ألا يغامروا بفكرة الانفتاح والمواجهة المكشوفة قبل أن يطمئنوا- وهم وحدهم الأدرى بواقع الفكرة – إلى وجود ثلة يعول على علمها وتقواها ويستأنسوا منها الثبات والتجرد والإخلاص والارتفاع عن الأهواء والمصالح والصوارف والهواتف . فان مرحلة الانفتاح تفرض توسيع دائرة الشورى والابتعاد عن الأحكام الحدية الفاصلة الجازمة ، والانتقال إلى المداراة والتساهل وغض الطرف عن بعض العيوب ويكون هناك الحرص كبيرا على الخير مهما كان قليلا وتشجيع أهله ومحاولة الاستفادة من خيرهم بأي طريقة .
إن نفسية أي مسؤول في هذه المرحلة يجب أن تتسم بصفات أساسية أهمها : طول النفس ،وبعد النظر وعمق الفهم لأحداثه ووسائله وإدراك جيد لواقعه ومعرفة متميزة لأطراف ساحته وحسن ترتيبها بين معادي ومنافس وحيادي ومناصر ،ثم درجة المناصرين ودرجة الأعداء ..إلخ ،كما يجب أيضا أن يتصف بالثبات على المبادئ والأصول ويفرق جيدا بين المداراة المطلوبة والمداهنة المرفوضة والخيط بينهما رقيق ،ومن الصفات المطلوبة أيضا الحلم ، والتيسير وسرعة التكيف مع المتغيرات ،والأعداد لكل فصل حلته ، ولكل قوم لغتهم ولكل عدو سلاحه ، وهذه الصفات وغيرها لا تبنى في هذه المرحلة وإنما تكون أيام النشأة الأولى هي الحقل الذي تغرس فيه هذه الخصال ومن أغفل عن الزرع في أيام الحرث فلا يطلب الثمر الجيد يوم الحصاد .
إن الحرص على مرحلة الإعداد واستمرارها بالتوازي مع مرحلة الانفتاح هي رأس الأمر في نجاح الدعوات والتمكين لها ،لان مفاجآت أيام المحن ومحك التجربة ، أكبر من أن يستوعبها ذوو التكوين البسيط .إننا نؤكد ذلك لان قصة طالوت تثبت أن الأنصار المؤيدين قبل المواجهة قد تتقلص إلى أقل من الربع في أحسن الأحوال عند المواجهة .
ونتتبع معا الآن مراحل تنقية الصف من الغثائية:
1. أول تمييز بين الصادقين في طلب الجهاد الحق والعاطفيين الذين استثارهم الظلم وليس لهم الاستعداد الكافي لذلك ، يكون عند إعلان القيادة الانتقال من القول الا الفعل “فلما كتب عليهم القتال تولو إلا قليل منهم ” وفي اللغة يستثنى القليل من الكثير وبالتالي فإن نسبة الذين تراجعوا في أحسن الأحوال هي النصف ولم يهضم هذا الموقف إذن سوى أقل من النصف على الأكثر ،والقيادة الحكيمة لا يمكن ان يفاجئها هذا الموقف لانها تنتظر أكثر من ذلك .
2. وتأتي العقبة الثانية عند إقدام القيادة على مواصلة السير نحو الهدف الذي عزمت وتوكلت على الله من أجل تحقيقه وذلك بتعيين قيادة ربانية اختارها الله سبحانه . وهنا ستتعالى أصوات أصحاب النفوس المريضة و ذوي المطامع المستورة ،والأهداف الخفية وبعض من أصحاب النيات الحسنة الذين يجهلون قواعد اللعبة ولا يعرفون من فن إدارة الصراع الا ظاهرا منه وهم عن الخبايا غافلون .
هذه الفئة سيكون الغطاء الذي تتستر به هو الكفاءة ،فتدعي أن القيادة لم تحسن الإختيار وربما سهل اكتشاف هذه الشرذمة إذا كانت المقاييس التي تقدمها لا تخضع للشرع أولا ولا للعلم ثانيا والواقع والكفاءة ثالثا .
وإن كان السياق القرآني لم يصرح هنا بتساقط ثلة من المتنافسين على القيادة ومن يقف معهم ،إلا أننا نشم رائحة ذلك من خلال أسلوب احتجاجهم وإمكانية حدوث مثل الانقسام نظرا لطبيعة البشر عندما يتعلق الأمر بالرئاسة والمسؤولية .
والقيادة في هذه المرحلة -والله أعلم- يجدربها أن تبدع في تمازج الشورى في اختيار الرجال ، وذلك باقتراح أفراد يتم الاستفتاء حولهم وهذا من أجل تضييق دائرة الخلاف ، وغلق الطريق أمام دعاة الفتنة و المحافظة على دائرة الأنصار لان الاختيار البشري لا يرقى الى الاختيار الرباني ومع ذلك احتجت طائفة عليه.
وقد لخص ذلك كله السياق القرآني :
” قالوا أّنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال،
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يوتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ” ولكن القيادة في مرحلة مثل هذه تعرف قدرة الأعداء على استغلال مثل هذه الاضطرابات الداخلية لضرب الدعوة ولذلك تكون هنا الرحمة فوق العدل ، ومراعاة المصلحة واجب ، واستنفاذ الوسائل لان استرضاء الأنصار مطلوب ، ولا يكون ذلك بالطبع على حساب مصالح الدعوة والجهاد التي يجب ألا تتوقف
ولذلك أقدمت القيادة على شرح أسباب الاختيار وإيراد آيات بينات ودلائل أكيدة على ربانية اختيارها، “وقال لهم نبيئهم إن آية ملكه أن ياتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين”.
3. وبعد أن تراجع أكثر من نصف الأتباع بأسباب شتى ،وبعد أن بذلت القيادة وسعها في توضيح الرؤى والتدليل على صحة ما اتخذته من خطوات وبعد أن تمت عملية تصفية القضايا التنظيمية “الهيكلية” تولى طالوت قيادة الجيش وهنا تأتي مرحلة ضرورية يتوجب على القيادة التنفيذية على المستوى القاعدي أن تقوم به ،وذلك بأن تواصل عملية الامتحان والابتلاء لأفرادها بشتى الوسائل الشرعية الممكنة ، وفي إطار الثوابت ،وتبعا للمصلحة في التعامل مع المتغيرات حيث تفرض “بالمعنى التنظيمي ” على الأفراد جملة من الإجراءات لكي تتأكد من قدرة كل فرد على التحمل والثبات والطاعة في المنشط والمكره في غير معصية وربما كانت هذه الأمور مما لم يفرضه الشرع ،ولكنها من باب الوفاء بالشرط الاختياري المقطوع مع الله حول الطاعة للقيادة في المعروف .
أجل هذا ما نستخلصه من قوله تعالى :” فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم..”
وهنا تتقلص نسبة المعول عليهم والذين نجحوا في الامتحان الأول بنسبة أقل من50 % على الأقل أي أقل من ربع العدد الإجمالي الذي طالب بالقتال ،لأن التعبير ورد بالاستثناء ” فشربوا منه إلا قليلا منهم ”
وهذه المرحلة يجب على القيادة أن تمارسها بغرض اكتشاف المندسين والضعفاء على حد سواء إذ أن هؤلاء ربما صبروا على القرارات المتعلقة بإعلان الجهاد وتعيين القيادة ولكن قلة منهم تصبر على التكاليف اليومية للعمل والدعوة ” الفردية والجماعية “،” الروحية والمادية ” ،” الخاصة والعامة ” ورغم أن نيّات الأفراد لا يعلمها إلا الله فإن حاجة القيادة إلى مظاهر طيبة لتصنيف قدرات الأفراد ضرورة ملحة وفي كل الظروف يبقى للفراسة دورها في التقييم والتوثيق.
4. وتواصل الفئة المؤمنة “هو والذين آمنوا معه ” الزاهدة في متاع الدنيا “سلطة ومادة ” سيرها نحو المعركة التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق ،وهنا يؤكد السياق أن هؤلاء مؤمنين ولا يمكن أن نفيه عن الآخرين ولكن موازين خوض المعركة غير موازين الانتماء إلى المؤمنين إذ أن قوة الإيمان وقوة الجسم والعقل والقدرة على الثبات والصبر والترفع عن المغريات وطول النفس والتلذذ بالصعاب كلها صفات لازمة لأصحاب الشوط الأخير من معركة الدعوة إلى الله والتمكين لدينه.

اترك تعليقًا