” الذي يراك حين تقوم…”(آ.218 الشعراء)
راكعًا وساجدًا وجالسًا، لمَّا تخلو بنفسك أو مع الخلْق، يراك ويسمعك، ويعلم حركاتك وسكناتك، ونجواك وسرَّك وما أخفى. حتَّى إنْ كنتَ أنت لا تراه فإنَّه يراك ويرعاك، وهو الذي هداك لهذا، وإلَّا ما كنتَ لتقوم بين يديه عزَّ وجلَّ قانتًا خاشعًا، ترجو رحمته وتخاف عذابه. إرادتُك منه، قوَّتُك به، رقبتُك بيده، حياتُك موتُك مصيرُك بيده، أليس هو منْ يمدُّنا بالأنفاس؟! “وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلَّا كُنَّا عليكم شُهودًا إذْ تُفيضون فيه، وما يعزب عن ربِّك من مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السَّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلَّا في كتابٍ مبين.”(آ.61 يونس) ربٌّ قويٌ عزيز، عظيمٌ حليم، ٌ، غفورٌ رحيمٌ، كريمٌ ودود، ألا يستحق منَّا السُّجود، والكون كلُّه يلهج بذكر المعبود! “ألمْ تر أنَّ اللهَ يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم و الجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حقَّ عليه العذاب، ومن يُهنِ اللهُ فما له من مُكرِمٍ إنَّ اللهَ يفعل ما يشاء.”(آ.18 الحج)
” الذي يراك حين تقوم…” آية عظيمة يستوحي منها العبد المؤمن اطِّلاع اللهِ عليه في كلِّ تقلُّباته وأحواله، وأقواله وأعماله، أي يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة وقت قيامك، وتقلُّبك راكعًا وساجدًا. قيام الليل عبادة جليله، وقربة عظيمة، شريعة ربَّانية، وسنَّة نبويَّة، خصلة حميدة، ومدرسة إيمانيَّة، وخلوة بربِّ البريَّة .. ومع كل هذه الخصال الحميدة والصِّفات المجيدة، قلَّ الرَّاغبون فيها في هذا الزَّمان، وأصبحت عند كثير من النَّاس نسيا منسيًا.. أمَّا الأحرار أصحاب الهمم العالية، والقلوب الحيَّة، فرسان النَّهار ورهبان الليل، هم فقط منْ يعرف لهذه الأوقات قدسيتها. ” الذين يبيتون لربِّهم سجَّدًا وقيامًا.”(آ.64 الفرقان) وقال تعالى أيضًا: “أمَّن هو قانت أناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنَّما يتذكَّر أولو الألباب.”(آ.9 الزمر)
الصلاة بالليل والناس نيام، شعيرة عظيمة خصَّها الله بالذِّكر لفضلها وشرفها، وعلوِّ شأنها ومنزلتها، لأنَّ من استحضر فيها قُربَ ربِّه خشع وذل. سُئل أحد الصالحين، أيسجد القلب؟ فقال: سُجود لا يُورِّثُ قُربًا ليس بسجود، ثمَّ تلا قوله تعالى:”.. واسجد واقترب.”(آ.19 العلق) وكأنَّ في الآية إلماحةٌ إلى أنَّ استحضار معيَّة اللهِ لعبده واطِّلاعه عليه حين القيام بالعبادة، هو زادٌ روحي يُسلِّي قلبَ المؤمن في طريقه إلى الله، ويُجلِّي عنه صخب الحياة وكدرها، وعذاباتها وضُغوطاتها. لأنَّه لا بد لأيِّ كان يُراد له أنْ يُؤثِّر في واقع الحياة البشرية أن يستعد ويستمد ويطلب المدد، ويُعرِّض قلبه للنَّفحات.
يقول سيد قطب رحمة الله عليه:” وإنَّ قيام اللَّيل والنَّاس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليوميَّة و سفسافها، والاتِّصال بالله، وتلقِّي فيضَه ونورَه، والأنس بالوحدة معه، والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنَّما هو يتنزَّل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة التَّرتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في اللَّيل السَّاجي.. إنَّ هذا كلِّه هو الزَّاد لاحتمال القول الثَّقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير، الذي ينتظر الرَّسول، وينتظر من يدعو بهذه الدَّعوة في كلِّ جيل! وينير في الطَّريق الشَّاق الطَّويل، و يعصمه من وسوسة الشَّيطان، ومن التِّيه في الظُّلمات الحافَّة بهذا الطَّريق المنير.” (في ظلال القرآن)
إنَّ أفضل صلاة بعد الفريضة صلاة الليل. كما قال سيِّد: ” للذِّكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنَّها لتسكب في القلب أنسًا وراحة وشفافية ونورًا، قد لا يجدها في صلاة النَّهار وذكره.. والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرَّب إليه وما يوقع عليه، وأيُّ الأوقات يكون فيها أكثر تفتُّحًا واستعدادًا وتهيُّؤًا، وأيُّ الأسباب أعلق به وأشدُّ تأثيرًا فيه.”(تفسير الظِّلال) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين.” (رواه أبو داود بسند صحيح) فرحم الها رجلًا قام من الليل و أيقض أهله فصلَّى لهع ركعات، ودعا لنفسه وأهله ووطنه وأمته. اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنَّا يا كريم.
– جمال الدين عماري.24 رمضان 1438ه/ 19 جوان 2017م.
” الذي يراك حين تقوم…”(آ.218 الشعراء) …بقلم الاستاذ جمال الدين عماري
