خطاب إلى علماء الأمّة؛ إبراء للذمّة …الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

بسم الله الرحمن الرحيم
خطاب إلى علماء الأمّة؛ إبراء للذمّة
الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
يا مِلْحَ، يا سُكّرَ البلَد ! أيها العلماء ! يا من أنتم للبناء بمثابة العِماد والوتَد، وفي الأمة الدّعامة والسّنَد !
اذكروا –يا علماء الأمّة- أن الله قد بوّأكم مكانا عليا، حين قال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[سورة المجادلة، الآية 11]، فما بالكم، تغيّرون وصف الله، وتنزلون بأنفسكم إلى أسفل الدركات ؟
إن الأصل في علماء الدين، أن يكونوا هم أهل الحل والعقد، في جماعة المسلمين، فيحلوا النزاعات بين المتخاصمين، وفقا لكتاب الله وسنّة إمام المرسلين، ويرشدوا الساسة والحاكمين، تطبيقاً لأمر رب العالمين.

لكن ما بال بعض المنتسبين إلى العلم –اليوم- ناكبين عن الصراط المستقيم، فمنهم من يمشي على بطنه، زحفاً، كالحية الرقطاء، يدور مع الكراسي حيثما دارت، ويجري خلف المناصب والمكاسب، حتى ولو جارت، ويتبع الطريقة الحرباوية، في تسلق المراتب، ولو ظَلمت، واعتدت، وأغارت ؟
أليس فيكم –أيها السادة العلماء- من يقحم نفسه، في قضايا الدماء، بين الأشقاء المتنازعين، فيعمد إلى تلطيخ العِمامة، وإفساد الإمامة، والدوس على الكرامة، في سبيل إرضاء ذوي الجاه والزعامة؟.
ورحم الله إمامنا محمد البشير الإبراهيمي، الذي قال:
لا نرتضي إمامنا في الصفّ ما لم يكن أمَامنا في الصفّ
لقد جنى بعضكم على الأمّة، حين تراجع دور العالِم فيها، من الأمام إلى الخلف، فصارت الأمّة، تسير إلى الوراء عن جدارة واستحقاق، وما ذلك إلا لأن مقومات التقدّم قد نُزعت، ومعادلة القيادة قد عُكِست، ومعالِم الإمامة قد طُمِست.
إن الأمّة –كما يقول إمامنا ابن باديس- تنهض بقوة العِلم أو قوة الظلم، فكيف إذا كان حال أمّتنا اليوم، يوصف بقلة العلم، وسوء الفهم، وشدة الظلم؟
فحسب العالم، في كل أمّة، أنه الأوكسجين الذي يملأ الأنفاس، و”الصابون” الذي يطهّر الأبدان من الأنجاس، والكلمة الطيّبة التي تطرد من القلوب كل وسواس وخناس.
قيمة العالِم أن يرتفع بأقواله، وأعماله، إلى مستوى الأعالي، وإن أغضب بمواقفه الحاكِم أو المحكوم، فلا يبالي.. فالحق أحق أن يُتبع، والميزان الذي به نزن الأعمال في الرجال، هو الحروب والنزاعات.. ولكن ما راعنا، إلا وأنه كلما حلّت بالأمة محن أو فتن، إلا وازداد بؤس العلماء، بإذكاء نار الفتنة، وبث الأحقاد والضغن.
حدث هذا عندما اندلعت محنة العراق فبرزت الطائفية بقيادة أشباه العلماء، وعندما اشتعلت حرب الأشقاء في سوريا، انقسم المثقفون بين مؤيد ومعارض، هذا يفتي للحاكِم، بغير عِلم، وذلك يفتي للمحكوم بغير فهم.. وانسحب هذا على كل بؤر الفتن، في أمّة العجائب والمحن.. حتى جاءت محنة الأشقاء الألداء في الخليج، فبانت عورة العلماء، وطهرت سؤأة الأمراء، والوزراء.
فهل يُعقل أن يتنبأ من ينسب إلى العلماء بسقوط قطر، بعد سنتين من الزمن، تزلفاً للحاكِم، وانتقاماً من العالم؟
وهل يعقل أن يوصف عالم كسيد قطب بأنه شيوعي، تقرباً إلى الشيطان، ونكاية في الإخوان.
وما هو أدهى وأمرّ، أن يوصف عالِم كالعلاّمة يوسف القرضاوي، وداعية كوجدي غنيم، ومفكّر كعلي الصلابي، بأنّهم عرّابو الإرهاب، والجميع يعلم أن ما بينهم وبين الإرهاب، هو ما بين السراب والسحاب.
فما لهؤلاء العلماء، لا يكادون يفقهون حديثاً ؟
أفبعد هذا يريدوننا أن نأثم بإمام يؤمن بهذا السراب، وبمؤسسة عالمية تبشر بالخطاب، فياللخراب أو لسوء المآب، فمن خانكم في المحراب، لا تأمنوه في أي باب..
سبحانك اللهم تؤتي العِلم من تشاء، وتنزع الحكمة ممن تشاء.. تعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، وما أنت بظلاّم للعبيد.
فاللهم لا شماتة في أحد.. بل إننا نوجهه خطاباً، فصيحاً، وصريحاً، إلى كل من ساقه الله إلى أن يبتلى بزمرة العلماء، أن يكون في صفوة الحكماء، الذين يصلحون إذا فسد الحاكم، ويُصلحون إذا فسد الناس، فالعالِم سراج أمتنا، وكاشف غمتنا، وطبيب محنتنا، وهو الجامع لوحدتنا، ونخبتنا.
فليذكر العالِم، وهو خير من يعلم، أن المناصب والمراتب، والمكاسب، هي لعب ولهو، وزينة وتفاخر.. ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[سورة الحديد، الآية 20].
فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد، ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء﴾[سورة النحل، الآية 89].
فاتقوا الله يا علماء الدين، فيما تقدمون عليه من مواقف، وما تصدرون من فتاوى، وما تأتون من أحكام، واذكروا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون..
فمحنة أمتنا العربية والإسلامية، أنها تمر اليوم بأخطر مراحل حياتها، إنها مرحلة الوجود، بعد مرحلة الحدود.. إننا نوشك أن نبحث عن أمتنا، ذات يوم، فلا نجدها، والمسؤول عن ضياعها هم العلماء والأمراء.
من لي بعالم، يتخصص في أمراض الشعوب، يشخّص لي داء أمتي ! فقد استعصى داؤها عن علاج فقه القرآن والحديث، ولا يمكن أن ينفع فيها، دواء العلمانية، وإيديولوجيا الحداثة والتحديث.
وإن مما ألهب أتون فتنها وحروبها هو تواطؤ العلماء، بسوء انتمائهم، ومما لئتهم للحكام، بصمتهم وسوء اقتدائهم.
لقد وصل الهوان بأمتنا، إلى مستوى هذه الغثائية التي بلغتها، فأصبحت دمى على طاولة الشطرنج، يتسلى بها أبناء الغرب، ومادة استهلاك، لتمويل أسلحة الحرب، وأداة طبعت في أيدي الصهاينة وراعيهم ترامب، للضرب، فتبا لنا، وتب.
كل هذا ونحن ندّعي كذباً الأفضلية المزعومة بأننا خير أمة أخرجت للناس، ونعلن للملإ أننا نملك، سدانة البيت، وإمامة العام والخاص، ولكننا نسام، الخسف، والعسف، من أرذل الأرجاس.
فيا علماء الدين، لئن زاغت السياسة تحت طائل مكاتب الاستراتيجيات والدراسة، وشوهت الحقائق أمام الملكية والرئاسة، فما هي حجة العالم، إذا فقد منهج العلم والكياسة، وابتلى بهذه المآسي، وهذه التعاسة، والنخاسة؟
آه للأمة، ضعف الطالب فيها والمطلوب، فحادت عن الكتاب والمكتوب، وعن المطلب المرغوب، فضاعت وأضاعت النسب والمنسوب !
تالله، إننا في حيرة من أمرنا، فقد ضاعت منا البوصلة، والحوصلة، ولا ندري كيف تكون أحوالنا، بعد هذه الفتنة الكبرى التي لم يبق لها من مصير جماعي إلا المقصلة.
فهل يستيقظ حكامنا، على صلصلة الهزيمة، التي حلت بأمة كريمة؟ وهل يئوب علماؤنا، إلى رشدهم، فيرتفعوا بعلمهم، وسلوكهم، وأخلاقهم عن هذه اللطيمة، التي هي نذير الشؤم، والعواقب اللئيمة؟
لقد كاد الإحباط أن يلفنا، واليأس أن يسكننا، والتشاؤم أن يحكم أمرنا، تجاوزت أمتنا مرحلة الخطر إلى ما هو أخطر، ومستوى الهزائم إلى ما هو أكبر، لذلك، نبعث بصفارات إنذار إلى كل من لا يزال يحمل بقايا ضمير، ولا سيما علماء الدين الراكضين في بحر لُجى من الأمواج المتلاطمة، المنذرة بالأهوال والنذر، وسوء المصير.
إننا إبراء للذمة، نستفز ضمائر علماء الأمّة، عسى أن يكشف الله عنهم الغمّة، ويحيي فيهم الهمّة، فيعودوا إلى حيث وضعهم الله، بدل الدرك الأسفل إلى ذروة القمّة.
نصحت ونحن مختلفون دارا ولكن كلنا في الهمّ شرق

اترك تعليقًا