” أحب العباد إلى الحق، أنفعهم للخلْق ”
مفهوم التَّقْوَى في القرآن الكريم مِحوريٌّ ومُهمٌّ جدًّا، بل يُمثِّلُ غائيَّةً غيْرُ مُتناهيَة في النُّبْل والسُّمو والرِّفعة، وهو أمرٌ مطلوبٌ التَّحقُّق به كمؤمنين، ما اسْتطعنا إلى ذلك سبيلًا.”فاتَّقوا الله ما استطعتم..”(آ.16 التَّغابن) إنَّه بإمكانك أنْ تُجْزم أنَّ الغايةَ من إنْزال الكتاب العزيز، وبعثة النَّبي الخاتم عليه أفضلُ الصَّلاة وأزكى التَّسليم، هي إيجادُ الإنسان الإيجابي، الإنسان السَّوي المتَّزن، الإنسان الصَّالح الممتثل لأمر الله. هذا الكتاب الَّذِي لا ينتفع ولا يهتدي به إلَّا من كان تقيًّا. “ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتَّقِين.”(آ.1،2 البقرة) فَفهِمْتُ أنَّ صوْمَ رمضان يَصْنعُ الإنسان التَّقي، الإنسان المستقيم، الإنسان الصَّالح المُصْلِح، وكذلك تفعل الصَّلاة، الزَّكاة، الحج، وسائِر العبادات والطَّاعات، وكذلك يصنع الإيمان.. “..ومنْ يؤمن بالله يَهْدِ قلبَه واللَّهُ بكلِّ شيْء عليم.”(آ.11 الطَّلاق).وكذلك يصنع القرآن.”إنَّ هذا القرآن يهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَم ويُبشِّرُ المؤْمنين الَّذِين يعملون الصَّالحات أنَّ لهم أجْرًا كبيراً”(آ.9 الإسراء) وكذلك يصنع المنهج الإسلاميُّ التَّربوِيُّ الأصيل بأهلهِ. لذلك وأنْتَ تُقلِّب صفحات المصحف الشَّريف، كثيرًا ما تلْحظ مفردة “التَّقوى” أوْ إحْدى مُشتقَّاتِها، فهي مَبْثوثةٌ في ثنايا الكتاب العزيز كُلِّهِ، والأمْرُ كما يُقال إذا تكرَّر تأكَّد.
لكن أتدرون من التَّقي؟ قد يقول قائل: هو من يصلّي كثيرًا، ومن يصوم كثيرًا، ويقول آخر هو من يمسك لسانه، ويسَعه بيته ويبكي على خطيئته، ويقول ثالث: التقوى أنْ تبذل خيرك، وتكف أذاك عن غيرك، وهكذا..
تصوُّر خاطئ لمفهوم التَّقوى عند الكثير وللأسف الشديد. لا ريب أنَّنا نعيش في عصر اختلطت فيه المفاهيم والمصطلحات، بل شُوهت في أحيان كثيرة، وفي حالات أخرى لا يتَّسع المقام لذكر أسبابها، فُهمت فهمًا خاطئًا. ولا غرابة في ذلك، فما فتئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحِّح مثل هذه المفهومات الخاطئة عند الصحابة رضي الله عنهم، ويحضرني هنا الحديث النبوي الشريف:” أتدرون منِ المفلس؟”
كذلك حالنا اليوم حيث أصبح الكثير منَّا يفهم التَّقوى والصَّلاح والاستقامة و الهداية – وكلُّها أسماء لمسمى واحد – على أنَّها أمر شخصي فردي بينك وبين الله تعالى، نقطة أول السَّطر كما يقولون. ونسي هؤلاء أنَّ من أهم مقاصد الدين أن ينقلك من إنسان يحوم حول نفسه إلى إنسان يحوم حول الآخرين. ثبت في الأثر:”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.”(رواه البخاري ومسلم) تامَّل جيدًا، أليست هذه دعوة صريحة إلى الخروج من الفردية القاتلة إلى المركزية المجتمعية، من دائرة الأنانية الضيِّقة إلى دائرة المجتمع الرَّحبة الواسعة. إذا لم تكن لك الحركة نحو الآخر، لأجل أن يقترب منك وتقترب منه، أن تكون العلاقة بينكما حميمية، فلستَ على شيء.
ثبت في الأثر أيضًا:” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا.”(متفق عليه) اللَّبنة التي لا تَشد غيرها لا ولن تُشد، كذلك الحال بالنسبة للفرد الذي لا يتحرَّك نحو الآخرين لمساعدتهم ومؤازرتهم ومد يد العون لهم لا ينتظر من الآخرين أنْ يتحرَّكوا نحوه. بل يتَّسع الأمر ليشمل محبَّة الخير حتَّى لغير المسلمين، بأنْ يمن الله عليهم بنعمة الإيمان، وينقذهم من ظلمة الشِّرك والكفر، ويدل على هذا المعنى ما جاء في رواية الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم:”وأحبْ للناس ما تحب لنفسك تكنْ مسلمًا.” نعم هذا هو الأفق الإنساني الرَّحب الذي يستهدفه ديننا الحنيف، ويحثُّ أتباعَه أن يتمثَّلوه، كيف لا وهو دين الرَّحمة دين الحق إلى كلِّ الخلْق.
التَّقوى إذا ليست التَّمركز حول الذَّات والطَّواف حولها، أو كما يعبِّر بعضنا بلسان حاله لا بلسان مقاله، لا شأن لي ولا همَّ ولا اهتمام إلَّا بثلاث (العمل – البيت – المسجد) فأيُّ تقزيم للدَّور الرِّسالي كهذا التقزيم وهذا التَّحجيم! وأيُّ هروب من المهمة الوُجودية في الحياة كهذا الهروب أو هذا الفرار ! وأيُّ استقالة أخطر من هذه الاستقالة ! وأمتنا تواجه هذه التَّحديات وهذه الهجمة الشَّرسة من قِوى الشَّر على الأرض والعرض، على الثَّوابت والمقدَّسات.
أنت تقي أنت أخلاقي بقدر ما تقدم من خدمة، بقدر ما تكون متدين اجتماعي، أنت متدين بقدر نسبة حضورك على مستوى الأداء الاجتماعي، بقدر انشغالك واهتمامك بقضايا وطنك وأمتك. إذَا وجدتَ نفسك أنَّك تبذل خدمة وتفرح بالخدمة أكثر من الذي خدمته فأنت على الطَّريق الصَّحيح، أمَّا الذي كلما توغَّل في الدِّين كلَّما انعزل عن بلده ووطنه وشعبه، هذا برنامجه غلط، وخطابه غير متوازن، لأنَّ تديُّنَه شكلي مغشوش، صُنع في مناخات غير صِحِّية.
قال ابن القيم رحمة الله عليه: كان شيخ الإسلام ابن تيمية يسعى في حوائج الناس سعيًا شديدًا، لأنَّه يعلم أنَّه كلما أعان غيره أعانه الله ، ولذا تجدِ الكسالى أكثر النَّاس همًّا وغمًّا وحزنًا ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النَّشاط والجد في العمل – أيُّ عمل كان – (روضة المحبين لابن القيم)” اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا، اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين
– جمال الدين عماري.
الثلاثاء 08 أوت 2017م/ 16 ذو القعدة 1438ه