” مواقفنا بين الارتباط بالأصل والتَّواصل مع العصر “

التَّعايش السِّلمي بين النَّاس، فضلًا عن التَّعاون والتَّآزر والتَّكافل بينهم، كما هو في عقيدتنا وفي ديننا، مقصد نبيل وغاية شريفة، وأُفق إنساني راقٍ، يستشرفه ويرومه كلُّ ذي فطرة سويَّة وذوق سليم. لكن ذلك لا يتم عمليًّا إلَّا بعد التَّعارف و التَّفاهم، والالتقاء على ما هو مشترك بين الخلْق من مبادئ ومصالح ومنافع. قال تعالى:”يا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنَّ اللهَ عليم خبير.”(آ.13 الحجرات) وفي سورة الحج بيَّن عز وجل أنَّ في لقاء الحجاج خيرات ومنافع، فقال تعالى:”..ليشهدوا منافع لهم..”(آ.28 الحج) ثبت في الأثر:”.. وأحبَّ للنَّاس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا..”(أخرجه أحمد والترمذي، قال الألباني عنه حسن.) ولا يرتقي لهذا المستوى إلَّا امرؤ أدرك السِّر والغاية من وُجوده، وسعى سعيًا جادًّا للتَّحقُّق بمقام “إيَّاك نعبد، وإياك نستعين” والامتثال بكل مواصفات الخيرية “.. وافعلوا الخير” التي تؤهله لإداء دوره الرسالي في الحياة.
في خضمِّ التَّزاحُم والتَّدافُع والتَّنافُس في هذه الحياة الدُّنيا قد تزلُّ قدم. قال تعالى:” الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنَّهم يُحسنون صُنعًا.”(آ.104 الكهف) وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء الجميل الذي نردِّده بداية كل صباح:” اللهم إنِّي أعوذ بك أن أضلَّ أو أُضل، أو أزلَّ أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي.” وأحسب أنَّ العاصم من الوقوع في كل هذه المحظورات، الضَّامن للسير الحسن في الطَّريق السَّليم، أنْ يفقه المرء أمرين اثنين، وأن يلتزم بمقتضى ذلك في فعله وسلوكه قبل قوله وخطابه. لانَّ الذي يهم هنا هو الامتثال لأمر الله وليس كثرة النِّقاشات والسِّجالات.
1) الارتباط بالأصل
والتَّشبُّث بالهويَّة وبالجذور والثَّقافة الأصيلة، دون تحجُّر أو تعصُّبٍ أو انغلاق، إنَّنا أمَّة تمتلك ثروة ضخمة هائلة متنوعة، لا تحيط بوصفها عبارة أو تصوير. نحن المسلمون حراس عقيدة، وأهل ملَّة، وأصحاب الرسالة الخاتمة، ننتمي لخير أمَّة أُخرجت للنَّاس ولا فخر. وهل يضيع من بحوزته أعظم كنز، وحي السَّماء، آخر كلمات الله إلى البشر، هدي النبوة، تراث فقهي وأدبي وعلمي وفنِّي زاخر، منجز حضاري متميز عبر القرون والعصور! فما أعظمه من دين لو أنَّ له رجال ! فقط أنْ نُحسن فهمه، حتَّى نُحسن عرضه وتقديمه والدَّعوة إليه، وأن نتلقَّاه على يد علماء ربَّانيين ثقات عدول مشهود لهم بالخيرية والصَّلاح والاجتهاد. لأنَّ الإسلام دين الحق لكل الخلْق، وليس دين الإنسان الشرقي إلى الإنسان الغربي، كما تروِّج له وسائل الإعلام المأجورة الغربية منها وغيرها.
كما لا يخفى على أحد أنَّ سوء فهم الشَّريعة والدِّين عمومًا ورَّثنا سلبيات لا حصر لها ولا عد، بل إنَّ معظم الشُّروخات و الاختلالات، والفتن والهزَّات الداخلية من مخرجات هذا المطب، هذه الثَّغرة التي يجب أن تُسد، بنشر الوعي وإتاحة فرص التَّعليم والتَّثقيف لكلِّ أبناء الأمة لحمايتهم من كل وافد دخيل، ومن كل محاولات الاختراق. فالعلل والأمراض الداخلية أخطر بكثير من سهام الأعداء الخارجية. ومن أجل فهم صحيح لابد من التَّسلُّح بالعلم والمعرفة والثَّقافة، فملكة التَّفكير والقدرة على التَّحليل والنَّقد لا تنمو إلَّا في مثل هذه الأجواء.
قال ابن تيمية رحمه الله:”حاجة الأمَّة ماسَّةٌ إلى فهم القرآن.”والفهم الصَّائب أساس العمل الصَّالح، وإذا لم يتحقَّق حسن الفهم، فإنَّه لا مناص من الحيرة والاضطراب وعدم العمل، أو العمل على أساس منحرف أو مختل.”(الفتاوي،313/13، لابن تيمية) فما نشهده من حيرة واضطراب وفتن هوجاء في عالمنا الإسلامي، أتتْ على الأخضر واليابس إلَّا نتيجة وإفراز طبيعي للفهم الأعوج والفقه الأعرج والتَّدين المغشوش الذي مازال وللأسف الشَّديد يتمدَّد في فضاءاتنا، ولا عجب فالنَّموذج السَّيء كثير الانتشار، أمَّا النموذج الوسطي المعتدل فعملة نادرة، لكن ينبغي العمل على توسيع دائرته. قال الشيخ محمد الغزالي طيَّب الله ثراه:” إنَّها لجريمة قتل أنْ ننتمي لهذا الدِّين، ثم لا نُحسن فهمَه، ثم لا نُحسن عرضَه، ثم لا نُحسن الدِّفاع عنه.”
2) التَّواصل مع العصر
أو ما اصطلح عليه بالمعاصرة، فالإنسان ابن عصره، وابن بيئته التي نشا فيها وترعرع، وحتَّى يُحسن التَّصرُّف والتعاطي مع متطلبات كل مرحلة، مع كل شرائح المجتمع وفئاته، لا بد أن يجتهد ويعمل، ويبذل قصارى جهده من أجل أن يُنتج ويبدع ويُضيف، ويترك أثرًا طيبا يدل عليه بعد رحيله، وأن يكون سببا في استقرار وطنه وأمنه وازدهاره وتقدمه. وأن تكون له قدرة على الاتِّصال والتَّواصل مع قومه وبني جلدته، ومع غيرهم، يقترب منهم يحتك بهم، يخدمهم ويتعاون ويتفاعل معهم في السَّراء والضَّراء، ويعتبر ذلك جزءً من أخلاقه وفهمه وإيمانه ودينه. متسلِّحًا بالعلم، موظِّفا ومستثمرًا كلِّ وسائل العصر التِّقنية والتِّكنولوجية، والأساليب الحديثة في الإدارة والتسيير والتخطيط وإنجاز المهمات والأعمال، بشرط أن لا تتناقض مع مبادئه وقيَمه في الحياة. كما في قوله صلى الله عليه وسلم:” أنتم أعلم بأمور دنياكم ..”( ذكره ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم بروايات مختلفة) وما جاءت به الحضارة الغربية نأخذ منه ونترك، أي نثمن ما عندهم من إيجابيات، ونتفادى السلبيات وهكذا، هم أيضًا أخذوا من ثقافتنا ومن حضارتنا وتركوا. العالم اليوم قرية صغيرة، وسائل الاتِّصال التكنولوجية بلغت درجة كبيرة من التطور ولابد من استغلالها واستثمارها فيما ينفع.
جمال الدين عماري. الثلاثاء 22 أوت 2017م/ 29 ذي القعدة 1438 هجري

اترك تعليقًا