الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطَّاعات وينقص بالمعاصي. فهو شجرة طيِّبة، أصلها ثابت وفرعها في السَّماء تُؤتي أُكلها كلَّ حين بإذن ربِّها. غرسٌ يُنشئه القرآن بداية، ثمَّ يُسقى بماء العبادة والعمل الصالح فيورق ويُزهر، إلَّا أنَّ مَلمَحًا هامًّا يجب الانتباه إليه، ألا وهو الحذر من انحصار الأذهان في الطقوس، وانحباسها في الأشكال، رغم أنَّ الشَّكل في العبادة واجبٌ لا بد منه، لكن الاقتصار عليه معزولًا عن تلكم النَّفحات و الإشراقات.. يعزلُهُ عن إدراك شفافية اللِّقاء، ويَحجبُه عن تذوُّق طُعم الإيمان.”لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ…” (آ.37 الحج)
حقيقٌ بنا أنْ نُعيد لعباداتِنا مذاقَهَا، ولصلواتِنا ترنيماتِها، ولسجودنا وركوعِنا هيامَه، نستمدُّ من هذا الرَّحيق الطَّاهِر مددًا ربَّانيًّا، و عطاءً رحمانيًّا، وإرادةً إيمانيَّةً، نُكْسِر بذلك حواجز القلق، ونُبدِّد سُحُب اليأس، ونَغرس روحَ الأمل، ونُخطِّط لإتقان العمل، راجين نصرًا مُؤزَّرًا وفرجًا قريبًا.”..ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتَّقِ اللهَ يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يَتوكَّل على اللَّهِ فهو حَسْبه، إِنَّ اللَّهَ بالِغ أَمْره، قد جَعل اللَّهُ لكلِّ شَيءٍ قَدْرًا.”(آ.2،3 الطلاق)
إنَّ رَفاهيّةَ الإنْسان الْحقّةَ في إِيمانِهِ وسكِينتِهِ، وطُمأْنينَة قلْبِهِ، فالْإِيمَان أُسُّ الفضائل، ولِجام الرَّذائِل، وقَوامُ الضَّمائِر، وسَندُ الْعزائِم في الشَّدائِد، وبَلْسمُ الصَّبْر عنْد المَصائِب، وعِمادُ الرِّضي والْقناعة بالْحُظُوظ، ونُورُ الأمَلِ في الصُّدور، وسَكنُ النُّفوس إِذا أوْحشَتْها الحياة، وعَزاءُ القُلوب إذا نَزلَ الموْت أوْ قَرُبتْ أيَّامُه، والعُرْوة الوُثْقى بيْن الإنْسانيَّة ومُثُلِها العُلْيا. لنْ يَكونَ الإنْسانُ آمِنًا على نفْسِهِ ومُجْتمعِهِ، إلَّا إذا كان مُؤمنًا بالله، مُلْتزِمًا منْهجَهُ، مُتحَرِّكًا داخِلَ إِطارِهِ. لأنَّهُ لا اسْتقْرار لعقْل الإنْسان وفِكْرِهِ وقلْبِهِ إلَّا بالإيمان، ولا راحةَ لِجسدِهِ وجَوارِحِهِ إلَّا بالإِسْلام، ولا لِرُوحِهِ إلَّا بالتَّقوى. وإذا كان هذا هَدفُ الْحضارةِ الحقَّة، وأملُ البشريَّةِ الأَكْبَر، فإنَّه لنْ يتحقَّقَ إلَّا بالدِّين الحق، والإِيمان واليقِين. فليْس غيْر الِإيمان باللهِ بلْسمٌ للرُّوح أوْ شِفاء للصَّدْر، أوْ تِرْياقٌ لأَمْراض الْقلَق، والْحيْرة والشَّك والارْتِياب. وهل في مقدور الإنسان مواجَهة شدائِدِ الحَياة بِشجاعة وصبر، دُون الإِيمان بِالله!
إنَّ التَّعاسةَ والبلاءَ وضنكَ الحياة، وكلَّ هذه الأعراض والأمراض الفتَّاكة، ما كانت البشريَّة لتتجرَّعها، لو التزمتْ هديَ السَّماء وسارتْ خلفَ خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، ولمَّا أعرضتْ وتمرَّدتْ وابتعدت، نالتْ جزاءَ صنيعها في الدُّنيا قبل الآخرة جزاءً وِفاقًا.”ومن أعرض عن ذِكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا ونحشرُه يوم القيامة أعمى.”(آ.124 طه).
السَّعادة نفحة من السَّماء يُنزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض، ليثْبُتُوا إذا اضطرب النَّاس، ويَرْضوا إذا سخط النَّاس، ويُوقِنُوا إذا شكَّ النَّاس، ويَصْبِرُوا إذا جزع النَّاس، ويَحْلموا إذا طاش النَّاس. قال تعالى”هو الَّذي أنزل السَّكينةَ َ فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وللَّه جُنودُ السَّماوات والأرض وكان اللهُ عليمًا حكيمًا”(آ.4 الفتح)
ألا تعلم أنَّ سكينة النَّفس هي الينبوع الأوَّل للسِّعادة، وللسَّكينة مصدر واحد هو الإيمان بالله واليوم الآخر؟ إذا كانتِ السَّعادةُ شجرة منبتها النَّفس البشريَّة والقلب الإنساني، فإنَّ الإيمان بالله وبالدَّار الآخرة هو ماؤها وغذاؤها, وهواؤها وضياؤها.
فيا منْ تبحثُ عن السَّعادة وقد تورَّمتْ قدماك ولم تجدْها، فإنَّك والله لنْ تجدَها إلَّا إذا حقَّقتَ الإيمان في نفسكَ، وعاشَه قلبُك، وانتعشتْ به روحُك، الطَّريق لنيْل السَّعادة هو الإيمان، وليس للإيمان إلَّا طريق واحد هو التَّقرب والاقتراب من هدي القرآن، فإنَّك إنْ حقَّقتَ ذلكَ رُزقْتَ السَّعادة من حيث لا تحتسب، ففر أُخيَّ إلى الله عبر كتابه، وتمسَّك به ليُنير دربك في الحياة.
– جمال الدين عماري. 20 /09/2017م الموافق29 ذي الحجة 1438 هجري
“حاجتنا لاستلهام القيم العليا ومعالم الرشد” …بقلم الأستاذ جمال الدين عماري
