البواطن البواطن، النِّيات النِّيات…بقلم الأستاذ جمال الدين عماري

“البواطن البواطن، النِّيات النِّيات..”
فإنَّ عليكم من الله عينٌ ناظرة .. صيحة أو قلْ صرخة أطلقها قديمًا أحد أطباء القلوب الشَّيخ العلَّامة والمربي الكبير ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه القيِّم صيد الخاطر- علَّها تجد آذانًا صاغية – يؤكِّد فيها قضيَّة قديمة جديدة، ذات أهمية وذات أولوية. وهو يشير إلى حاجة الفرد المسلم إلى التَّزكية القلبيَّة والتَّربية الإيمانيَّة، ليزداد المؤمن من ربِّه عزَّ وجل طاعةً وقربًا ، ومن رسالته فهمًا والتزامًا، وتضحية وبذلًا، ومن الخلْق خِدمةً وإحسانًا. وكأنَّي به ينادي: قلوبُكم، قلوبُكم أيُّها النَّاس.. يقصد أنَّ المشكلة مشكلة قلوب. نعم هنا مربط الفرس وموضع الخلل، من هنا ينبغي أن نبدأ. قال الشاعر:
نُسائل ما الدَّواء إذا مرضنا * وداء القلب أولى بالسُّؤال.(1)
يفصِّل ابن الجوزي شيئًا ما في هذه القضيَّة فيقول في فصل له تحت عنوان “صلاح السِّر”: “والله لقد رأيت من يُكثر الصَّلاة والصَّوم والصَّمت، و يتخشَّع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه وقدره في النُّفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثِّياب، وليس له كبير نفل ولا تخشُّع، والقلوب تتهافت على محبَّته، فتدبَّرتُ السَّبب فوجدت السِّر كما رُوي عن أنس بن مالك أنَّه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم، وإنَّما كانت له سريرة، فمن أصلحَ سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه. فالله الله في السَّرائر، فإنَّه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.”(2)
إنَّ الامتثال لأمر الله تعالى بنيَّة صادقة في الصَّغيرة والكبيرة، واستشعار الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى في كلِّ الأحوال محض توفيق وهداية وتكرُّم من الباري عزَّ وجل على عبده الضَّعيف الهزيل الفقير. فما أعظم نِعمه سبحانه جلَّ جلاله التي تنصبُّ علينا انصبابًا، وما أكثر غفلاتنا وأخطائنا وإساءاتنا!! ” وما بكم من نعمة فمن الله..” (3) ” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنَّ الله لغفور رحيم.”(4) اللهم ما أصبح ( وما أمسى) بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، أبوء لك بنعمتك عليَّ و أبوء بذنبي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت.
لذا فلننتبه ولنتفطَّن إلى خبايا وبواعث النَّفس الأمَّارة بالسُّوء، فقد يتسرَّب إليها الغرور، ويتملَّكها شعور العجب بما أسداه الله من نعمة أو فضل، أو عطاء أو رزق، أو موهبة خاصَّة أو عامة مادية أو معنوية، وكلُّها من الله.” ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.”(5) وقد يركبُ الإنسانَ زهْوٌ ونشوٌ بما عنده فيورده المهالك – لا قدَّر الله – انظر ماذا كان ردُّ قارون لمَّا ركبتْهُ الجهالة والعجرفة والغرور، حيث رأى أنَّه صاحب فضل وعطاء، وأهل تميُّز، وأجدرُ أنْ يُشار إليه بالأصبع، فأجاب من سأله، من أين لك هذه الأموال؟ ” قال إنَّما أوتيته على علم عندي..”(6) ثمَّ تأمَّل كيف عاقبه الجبَّار القهَّار ذو القوَّة المتين.” فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين.”(7)
فهل شكرنا الواهب على ما تفضَّل به وتكرَّم، وهل استشعرنا أنَّ النِّعم كلَّها، ما عظُم منها وما صغُر من الذَّرة إلى المجرَّة، حتَّى الأنفاس.. هي محض عطاء من الكريم ذي الجلال والإكرام، ” وإنْ من شيء إلَّا عندنا خزائنه، وما نُنزِّله إلَّا بقدر معلوم.”(8) لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، له النِّعمة وله الفضل وله الثَّناء الحسن. يا ربِّي لا نُحصي ثناءً عليك كما أثنيتَ أنتَ على نفسك، تباركتَ ربَّنا وتعاليت. استحضار نِعم المُنعم، واستشعار التَّقصير في جنب الله، لا ريب يولِّد حالة من العبوديَّة كالحياء والخِشية والخوف من الله، والتَّذلُّل إليه، والانكسار بين يديه.
إنَّه لا يزكِّي نفسه، ولا يعتدُّ بها، ولا يرضى عنها إلَّا جاهل عريق في الجهل. قال ابن عطاء الله السَّكندري في إحدى حِكمه المشهورة:” أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرِّضا عن النَّفس، وأصل كل طاعة و يقضة وعفَّة، عدم الرِّضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه، خيرٌ لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه. فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه ! وأيُّ جهلٍ لجاهلٍ لا يرضى عن نفسه !” (9) الَّلهم طهِّر قلبي من النِّفاق، وعملي من الرِّياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنَّك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. الَّلهم إنِّي أسألك قلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابر. اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
*(1) محمد المقرن، عضو هيئة التَّدريس جامعة محمد بن سعود-*(2) صيد الخاطر لابن الجوزي *(3) الآية 53 النحل-*(4) الآية 18 النحل -*(5)الآية 4 الجمعة -*(6) الآية 78 القصص *(7) الآية 81 القصص – *(8) الآية 21 الحجر-*(9) من حِكم، ابن عطاء الله السكندري.
– جمال الدين عماري. الجمعة 20 أكتوبر 2017م/ 29 محرم 1439 هـ.

اترك تعليقًا