مناقب محفوظ و كتلته الجمالية

بقلم / الشيخ محمد أحمد الراشد

مناقب محفوظوكتلته الجمالية

مضى واثقاً، بعد أن ضرب مثلاً للقيادة الناجحة التي تستوعب جيداً موازين الفقه الدعوي التي تحكم المواقف المشتبهة.

هذا هو موجز وصف شخصية أخي في الله، الفقيد الغالي، الهُمام الثابت على الدرب المستقيم، الأستاذ محفوظ نحناحرحمه الله.

رسخ …. يوم هبّت العواصف.

وفـصُح …. حين تلعثم المترددون.

وجَسَر وأقدم …. لما هاب الواجفون.

وصرخ بالحق …. حين تخافَتَ به الهامسون.

 

وفاصَلَ على بينة من الأمر يوم جنح الغَبشُ بأهله نحو الحلول الضبابية.

وقد راقبت صدورَ الدعوة على مدى نصف قرن، وصعدت عواطفي ونزلت سِيَر أجيال من القادة والزعماء ورجال الفكر الإسلامي، فأقنعتني مراقبتي الدقيقة أن وتيرة من الفقه الشرعي الموزون الممتزج بدروس تجريبية مقتَـبسة:

كانت تحرك النحناح حتى استوى في النهاية منتصباً شامخاً ضِمن الرموز الكبرى التي نُباهي بها ونفخر ونجعلها عناوين للدعوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، التي بها نقتدي، وإلى أفعالها نحتكم، وبحبها نرجو أن نلقى الله.

إنه مؤسس دعوة، وسابق، وصاحب إبداع، وليقل فيه القائل ما يشاء من عمق التجرد، وكثرة البذل، مع التواضع، والسكينة، إلاّ أن جميع ذلك يجعله مجرد شريك في هذه المناقب، وفي غيره من أهل الجزائربركة،

وقد نالوا من هذه الخيرات مثل ما نال، ولكن ميزة محفوظ الكبرى تكمن في إيمانه الشديد الذي أبداه بوجوب الحفاظ على الشروط الدعوية المتكاملة وعلى الطبيعة التدريجية التربوية للعمل الإسلامي حين أهدرها عن عمد أو نسيان من استحوذ على إعجابهم الصعود المفاجئ للصوت الإسلامي في الشارع الجزائري خلال مرسم واحد، لمَـا حدث الفراغ السياسي فملأته الخدمات الإسلامية.

كان المفترض في الدعاة أن يلوذوا بحقائق فقه الدعوة، وأن يميزوا أن كل توسع يتجاوز إتمام عملية تربية وتطوير الجيل الدعوي التأسيسي الأول: سيكون توسعاً خطراً يحمل في ثناياه احتمالات الاستعجال، بل والانحراف والإرهاق وإعنات الناس لو أرادوا الريث، وإحراج الحكومة إذا نوت توبة،

وقد كان هذا المعنى واضحاً لدى محفوظ، فاستمسك به، وأفتى إخوانه باللبث مع مفاد الوعي وأنْ لا تستفزهم المكاسب الأولية السريعة، فإنها ربما تأتي سهلة، ولكن يكون من بعدها دفع ضريبة كبيرة، ولات حين استئناف تربية واستدراك على قفص المراحل، وقد أبديتُ له تأييداً في ذلك، وصوّبت منحاه، وثنّيتُ على اختياره، وعضدتُه، في قلائل آخرين،

ولكن الكثير من الدعاة غرّتهم الصورة الظاهرة، فذهلوا عن ” الشروط المتكاملة ” الضامنة لاعتدال السياسة الدعوية، فطفقوا مع الحلم الوردي باختصار الزمن، ولم يدركوا المجازفة الكامنة في دخول مرحلة العمل المتقدمة من دون تربية كافية وبناء تنظيم مكافئ لهان وحاولوا تحريك قدم محفوظ عن موضعها الثابت، فكان كالطود الثقيل، وأبدى عناداً واعياً،

واستمسك بالذي انتهت إليه الموازنات العقلية والمذاهب التجريبية، غير آبه بهتاف العواطف، ثم انتظر حتى صدّقته الأيام والحوادث، وأخذت قصته مكانها المميز في التاريخ الإسلامي، وشهد له الفقه، وأذعن له الناشز، ويوم زرته في المستشفى بالعاصمة الفرنسية قبل موته بأسبوعين، بعد غيبة عنه طالت سنوات : قال لمن حوله مِن أعوانه وأركان جماعته : هذا الأخ الراشد أول من فهم موقفنا وأيدنا وشد أزرنا ولمح الخفي الذي غاب عن غيره.

وما كانت غير سنة واحدة بعد ذلك الموقف واللبث مع الثوابت الدعوية: حتى أظهرت الأقدار الميزة الكبرى الثانية لمحفوظ، يوم حصل الاختلاط، وصاحت صيحات الثأر والهدم والدم، وأصاب الناسَ الرعبُ، فأبى محفوظ التورط، ولاذ بالعفاف والبراءة من الدم، والتمس أسباب السكينة والطمأنينة ليشيعها بين جماعته وعموم الناس، وآمن بالحوار، والسلام،

وثبت عند الرؤية الحضارية، ونَبَذ العنف، وأدرك أن تراكم مفردات العمل الحضاري المنطلق من المعايير الإيمانية هو الكفيل بإنقاذ الجزائرمن وهدتها، في خطة طويلة الأم، لكنها مأمونة العواقب، وجازفت عناصر الغوغاء بذبح بو سليماني رحمه الله، مستفزة له محاصرة له في الزاوية الضيقة، لينفجر ويكون شريكاً في الخطأ، فكان رحيماً بالدعوة وبالجزائروبمنافسيه الذين أبقوا الخنجر محمولاً في كفوفهم يقطر منه الدم،

وأنزل الله تعالى السكينة على قلبه، وتحالم، وكبت، ولعن الشيطان، واعتصم بالرحمن، وعارض بكفه العاصفة، فتكسرت ريحها العاتية، وبقيت تتناقص حدتها، وحافظ على جماعته أن يبددها جهل وردود فعل انتقامية، وكَتَب التاريخ الإسلامي قصة ثانية من قصص محفوظ يلقى به ربه واثقاً معتداً.

ثم يأتي متبطر ظالم لنفسه وللناس ليقول: أخطأ محفوظ في خطبته يوم كذا، وصرح بما لا نرضاه في الصحيفة الفلانية، وصدق المعترض، وأنا على ذلك من الشاهدين، ورصدتُ لمحفوظ زلات لسنا وتعابير مفضولة وكلمات مرجوحة، ولكن أين هذه الصغائر من تلك ” الكبائر الخيرية الإيمانية الواعية ” التي وُفق لها وألهمه الله إياها إلهاماً ؟.

لقد كان محفوظاً بحفظ الرحمن، وبشريته التي وقف عندها الناقدون تجاوزتها ملائكيته التي حلّق بها في الأسماء.

هذا، مع روح بدوية أصيلة فطرية يلتذ بها المتعامل معه حين يقترب منه فينفتح، وكرم وعزة نفس وشمم، وفهم عربي أصيل رصين لمعاني الشرع المبين، مكّنه منه تخصصه في اللغة العربية، أضاف جمالاً إلى مناقبه الحسنى، رحمه الله رحمة واسعة، والأمل أن يلحظ أعوانه وخلفاؤه تلك الكتلة الجمالية لرجلٍ من المؤمنين سُـمي في الناس بمحفوظ النحناح، فيراعوها ولا يخدشوها، بأن يلتزموا وحدة الكلمة من بعده، وتقديم حق الجماعةعلى حقوقهم الفردية، فإن الجمال قد ندر

اترك تعليقًا